من صناعة الوعي العام المعارض إلى التجييش والتفتيت (1/2)
يمر إعلام البترودلار اليوم، «الجزيرة» القطرية نموذجاً، بطور جديد من أطوار دوره الوظيفي الذي يمكن تمييز أربع مراحل رئيسية فيه: بدأ أولها منذ تأسيس تلك القناة في عام 1996، مروراً بمرحلة الحرب الأمريكية على «الإرهاب» إبان غزو أفغانستان والعراق، ولاحقاً بدأ طور جديد مع بداية الحركات الشعبية العربية في 2011، ثم الطور الأخير الذي مرت به منذ إنهيار حكم الإخوان المسلمين في مصر في تموز عام 2013!
حشر الرأي المعارض بين الليبرالية والأسلمة
لقد مثلت الجزيرة في ذلك الوقت منذ نشأتها في أواخر القرن الماضي، منبراً هاماً لاتجاهين أساسيين بالمعنى السياسي هما الاتجاه الإسلامي من حيث الشكل، والاتجاه الليبرالي العلماني في مقابله، حيث وظفت القناة شعارها الرئيسي منذ التأسيس «الرأي والرأي الآخر» لتثبيت هذه الثنائية وثنائيات أخرى. فمقابل هذين القطبين التي سعت الجزيرة للترويج لهما درجاتهما كافة من الأكثر تشدداً إلى الأقل، قطبٌ واحدٌ كثفته الجزيرة بمقولة «الأنظمة الشمولية العسكرية القمعية» وهي مرادفات لاسم واحد، دون التمييز بين الأنظمة وفق محددات أخرى وهي تجسيد آخر لشعار «الرأي والرأي الآخر» أيضاً.
وعليه كان من الطبيعي أن يتم حشر الرأي العام العربي، بشكل بسيط بين هذه المكونات، فإما الأنظمة المهيمنة على وسائل الإعلام المحلية المهترئة والناطقة باسمها حصراً، أو المكونات والاتجاهات «النقيضة» التي قدمتها عبر طاقة الجزيرة على أنها نقائض أسياسية بديلة للأنظمة. حيث شكلت هذه العملية عملية صهر وتذويب لكل الاتجاهات السياسية وتلاوينها الموجودة قبل تلك الحقبة.
لقد سهلت هذه السياسة عملية قولبة الرأي العام المعارض وتنظيمه وصياغة وعيه، وإعادة إنتاجه لاحقاً إلى حد بعيد في البلاد العربية وباتجاه ليبرالي من حيث المضمون، أي بحيث يخدم بشكل أو بآخر المنطق الغربي ودوره في العالم العربي، وبالتالي تمَّ التحضير لقطب رئيسي في البلاد، وشكلت شعارات الجزيرة وقراءاتها السياسية جزءاً هاماً من طروحاته ورؤيته في المجالات السياسية والاجتماعية وذلك بعد أن ابتلعته القناة وقولبته وصدرته للعالم العربي كرأي آخر.
تثبيت ديمقراطية المكونات
في مرحلة لاحقة، مرحلة غزو الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق، كان لا بد من توظيف دور الجزيرة في إطار المشروع السياسي المبطن لتلك الحرب، وهو تفتيت البلاد، وعليه عملت الجزيرة على اكتساب مشروعية إضافية في الوعي العام، وتوسع نشاطها بفعل تغطيتها النقدية، من حيث الشكل، للتدخل الأمريكي في كل من البلدين، بمقابل التغطية المنحازة للاحتلال الأمريكي، الذي تبنته القنوات المنافسة، والتي ظهرت في حقبة الغزو كقناة «العربية» السعودية و»الحرة» الأمريكية.
ومع تبني الجزيرة للإسلام السياسي بتلميع وجوه طالبان والقاعدة كأسامة بن لادن في أفغانستان، والملا محمد عمر، وأيمن الظواهري، وصولاً لأبي مصعب الزرقاوي في العراق، والذين حولتهم الجزيرة إلى رموز مقاومة مقبولة. وبذلك مشت الجزيرة خطوة كبيرة في اتجاه إنتاج الوعي العام، فعليه ارتبط خيار مقاومة الاحتلال برموز السلفية الجهادية، حيث أريد لهذه الرموز أن توضع في صف واحد مع رموز المقاومة الأخرى الموجودة في فلسطين ولبنان وسورية. ومع تثبيت هؤلاء كرموز مقاومة للاحتلال الأمريكي في مقابل التبني الليبرالي العلماني، مقابل صمت النظام الرسمي العربي عنه، تم تسهيل تقدم الاتجاه السلفي كاتجاه أكثر جذرية وأصالة وارتباطاً بآلام مجتمعه، مما سهل غزو الوعي الاجتماعي ببقية ما تحمله تلك الأيديولوجيا من طائفية، تستدعي طائفية مقابلة، مما يفضي إلى إتجاهين: فإما التفتيت وهو المرفوض في الوعي العام، أو البحث عن “ديمقراطية المكونات” كطريق وحيد لاستمرار التعايش الإجباري، وفي الأحوال كلها خدمت هذه الطروحات كلها المشروع الأمريكي.
لقد أمنت صياغة الإعلام للرأي العام المعارض (الإسلامي أو العلماني الليبراليين من حيث الجوهر)، والذي زجت به هذه القنوات في وجه الأنظمة الصماء، ثنائية «نظام- معارضة» فتم حشر الوعي الاجتماعي وصياغته في حدود ضيقة، لا تسمح له إلا بشيء يشبه الانفجار في المكان، و قد يوصله إلى العدمية أو إلى خطوط موجهة مسبقاً، سنجد آثارها لاحقاً في إطار التبدلات الجديدة لأطوار الدور الوظيفي الذي لعبته هذه القناة نموذجاً.