متاهة الطرقات!
نهض «أحمد» من فراشه متثاقلاً هذا الصباح، دوى صوت قوي بالقرب من شباك غرفته أجبره على الاستيقاظ في مثل هذا الوقت، ما زال بحاجة لمزيد من النوم بعد أن أمضى القسم الكبير من نوبة الليلة الماضية منحنياً فوق إحدى آلات المعمل الصاخبة، اعتدل فوق السرير وأمسك هاتفه المحمول بحركة أصبحت شبه يومية مستطلعاً حسابه على الموقع الأزرق الشهير!
رسالة «فيسبوكية» جديدة فتحت عينيه على الفور، هي صورة لصديقه «عمر» من منتصف إحدى الساحات الأوروبية الجميلة مع رابط لإحدى المجموعات الفيسبوكية بعنوان : «طريقك الأسهل إلى أوروبا»..
صار بالإمكان لأي أحد أن يجد مثل تلك المجموعات بكل سهولة، فقد غصت مواقع التواصل الاجتماعي بالعديد من المجموعات والصفحات التي تتحدث عن أسهل الطرق، وأسرعها، وربما «أرخصها» أيضاً للهجرة إلى أوروبا. وتحول موقع «فيسبوك» بالذات إلى الدليل الأكثر شمولية واستخداماً لكل من يود الشروع بهذه المغامرة الجدية، مئات الصفحات أصبحت مهمتها اليوم جذب عشرات الآلاف من المتابعين الذين يخوضون يومياً نقاشات لا تنتهي، ويكوّنون مجتمعات افتراضية لتقدم النصح والمشورة وتتشارك التجارب المختلفة، الحلوة منها والمرة، خاصة مع تعدد الطرق والمسالك وتنوع أساليب السفر والهجرة، وتضارب الحقائق حول جميع تفاصيل هذه الرحلة الدقيقة التي قد تكلف صاحبها مبلغاً لا يستهان به من المال أو فقدان العديد من ممتلكاته أو الأسواً.. فقدان حياته.
«الطريق الأقل كلفة»..؟
يدفع الفضول «أحمد» للاشتراك في إحدى هذه المجموعات، يكتب السؤال التالي بكل بساطة: «ما هي الطريقة الأقل كلفة للوصول إلى ألمانيا»؟، تمضي عدة ثواني قبل ان تتزاحم الردود على شاشته، أرقام لـ«مهربين»، وروابط لمجموعات أخرى مختصة بـ«شؤون السوريين في ألمانيا»، بالإضافة إلى تعليقات طويلة، يفتح فيها أحدهم قلبه ليسرد جميع تفاصيل رحلته في سطور عديدة، ويصف معاناته الشخصية بالتواريخ والأرقام و«المبالغ المالية» التي دفعها، وسرعان ما يعلم أحمد مثلاً أن المهرب المصري «أبو حسن» هو من «أرخص» المهربين لكن قواربه سيئة للغاية، بينما يمكن الاعتماد على «يلماز» التركي للوصول إلى المكان المطلوب رغم أنه مكلف جداً، ومن جهة أخرى، يجب ألا يترك المسافر حاجياته الشخصية مع «خليل» الليبي لأنها ستختفي على الفور في معمعة الرحلة، أما «شاكر» فرقمه معروف للجميع وهو لطيف المعشر، وقد يسمح لك بحمل الطفل الرضيع إن كان برفقة أمه مجاناً، إن قمت بطلب ذلك بلطافة بالطبع. تذكر «أحمد» للحظة صور الأطفال الذين لفظهم البحر على الشواطئ الشهر الماضي، لكنه سرعان ما انتزعها جميعها من رأسه.
إعلان من نوع جديد!
يفضي البحث عن تلك المجموعات وفي تفاصيل المعلومات المنشورة فيها إلى مزيد من النتائج العجيبة، ابتداء من تخصص الصفحات، فبعض الصفحات تهتم بتفاصيل معاملات اللجوء الورقية في مختلف البلدان الأوروبية، وأخرى تفتح فرصاً جديدة للعمل للسوريين بعد وصولهم بسلام إلى وجهاتهم المختلفة! جمعيات ومؤسسات وهيئات «مدنية» بدأت تأخذ من هذا الموقع منصة للانتشار والتسويق، كل ذلك في سبيل وضع الزائر الجديد أمام عدد لا يحصى من الاحتمالات المختلفة والمتنوعة!
يمكن للزائر هنا تعلم لغة أجنبية أيضاً، عن طريق مجموعات افتراضية متخصصة بذلك، وربما يكفي فقط أن تتعلم بعض الجمل الشائعة التي ستحتاجها بلا شك في بداية حياتك الجديدة على الأراضي الأوروبية. أما الصور فهناك فيض لا ينتهي منها، صور خاصة للعديد من «المهاجرين» والابتسامة لا تفارق وجوههم مع رقم المهرب الدولي يذيل بعضاً منها، يبدو ذلك وكأنه نوع جديد من الإعلان!
قصة «رغد»..!
تابع «أحمد» تصفحه، فوقع بصره على صورة الطفلة «رغد» مرفقة بقصتها القصيرة الحزينة التي كتبها أحد شهود الواقعة، فقد رمى أحد «المهربين» حقيبة جهاز قياس السكر في الدم مع إبر «الأنسولين» الخاصة بها من يدي والدها في البحر، بعد أن ظن بأنه جهاز تعقب قد ينذر خفر السواحل، استشاط والدها غضباً لكنه اضطر للرضوخ للأمر الواقع بقوة السلاح، انتهت القصة برمي «رغد» في البحر بعد يومين إثر نوبة «سكري» حادة تعرضت لها بشكل مفاجئ، لم يستطع والديها فعل أي شيء لإنقاذ طفلتهم، فاضطروا إلى رميها في البحر، لأن الشواطئ الإيطالية لن تستطيع استقبال جثمانها، رمى «أحمد» هاتفه المحمول على السرير شاتماً لاعناً.
فرك رأسه بنزق : «هذا ما كان ينقصني في هذا الصباح»! فتح باب غرفته وهو يفرك رأسه بعصبية، التفت نحو والدته التي تعلقت عيونها الباهتة بشاشة التلفاز، انحنى عليها وقبلها ملقياً تحية الصباح، ابتسمت في وجهه على الفور وسرحت شعره بيديها المتعبتين، أمسك «أحمد» الكرسي المدولب ودفع أمه برفق نحو الشرفة المشمسة هامساً: «ستعاد نشرة الأخبار لاحقاً»، جلس بجانبها ونادى على شقيقته الصغيرة: «رغد.. يا رغد.. ما رأيك أن تعدي لنا فنجاناً من القهوة؟»