صوتوا لـ«ساندرز»..!
لم يتوقع أحد أن يقدم العجوز من ولاية «فيرمونت» الأمريكية على هذه الخطوة الكبيرة، كان يبدو على الدوام بأن لديه الكثير ليقوله، لكنه اعتاد ألا يحظى كلامه على إعجاب الكثيرين من حوله، لقد قرر أن يترشح لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وهو يبلغ من العمر ما يقارب ثلاثة أرباع القرن!
يصف «بارني ساندرز» نفسه بأنه «اشتراكي ديمقراطي»، لا يعلم أحد بالضبط ماذا يعني ذلك؟ حتى بعد أن حاول الرجل التوضيح عدة مرات، ما زال الإعلام الأمريكي التقليدي ينظر إليه كأحد المنظرين الاشتراكيين المستقلين القلائل، الذين أمضوا سنوات طوال في المجالس الرسمية الأمريكية، وعاصروا العديد من نقاط التحول في الحياة الأمريكية المعاصرة. لا تحمل أفكار العجوز «بارني» الكثير من «العمق الاشتراكي» إن صح التعبير، ويشوبها الكثير من اللغط، وتتخللها على الدوام ملامح من المساومة والمهادنة، لكنها تبدو «ثورية» للغاية بالمقارنة مع «البرامج» التي يحاول زملاؤه «تسويقها».
تفاصيل دقيقة!
تكاد لا تراه في التقارير الإخبارية. وعندما يظهر، يقرأ ساعات طوالاً من أوراق صفراء مجعدة حول عشرات القضايا «المملة» في نظر شاشات الإعلام الأمريكي المختلفة، يجمع محبوه وكارهوه على أنه لا يمتلك أي نوع من «الكاريزما» التي يجب أن تتوافر في المرشح الرئاسي، لا يرتاد النوادي الصيفية ولا يجتمع بالمتبرعين والداعمين أمام العدسات!
إنه يفضل أن يتحدث بتفصيل دقيق، ولعدة ساعات، عن أزمة الأجور، وعدم العدالة في توزيع الثروة. يرى «بارني» أنه الموضوع الأكثر حساسية هذه الأيام، ربما هو محق في ذلك لكنه مضطر إلى «تسويق» أفكاره هذه ضمن سياق الانتخابات الأمريكية التي اعتادت تغطيتها الإعلامية على الدوام، التعلق باللامع والبراق من الخطاب السياسي المعتاد، بعد أن تصطف كبرى وسائل الإعلام ضمن فريق هذا المرشح أو ذاك، يجمع المتابعون على أن حظوظه تتناقص كل يوم. تؤكد استطلاعات الرأي المتلاحقة ذلك، لكنه ما زال مثابراً على تكتيكه المتقادم، «واعظاً» الجميع حول قضايا الرعاية الصحية، والأقساط الجامعية الظالمة، والفوارق الطبقية المتزايدة، والظلم الواقع على العامل الأمريكي، وانهيار الزراعة، وسطوة الشركات الكبرى وأدواتها الإعلامية على حياة الأمريكيين.
حملة «بيضاء»!
لا يريد منافسوه المخاطرة بأي شيء، فقد يشعر الناخبون ذات صباح وبفعل معجزة ما بأن هذا العجوز الخرف، حسب رأيهم، يتحدث عن معاناتهم، لابد هنا من تدخل مناسب يبعد «بارني» وأفكاره عن مسامع الناخبين الأمريكيين، ولا توجد وسيلة أفضل من ذلك سوى تلويث برنامج الانتخابي بالجريمة الأكثر تأثيراً في نفوس الأمريكيين هذه الأيام، «التمييز العنصري»، حيث بدأت بعض الصحف الأمريكية باتهام حملته بأنها «بيضاء»، ماذا يعني ذلك؟
يعني أن «بارني» لا يتكلم عن هموم الأقليات في البلاد، ولا يخاطب مشاكل مجتمعات الرجل الأسود، ولا يعير اهتماماً لقضايا المهاجرين المكسيكيين في الجنوب، إنه لا يتحدث عنهم على الإطلاق، بل يصر على الحديث عن مواضيع «خيالية!»، كالفوارق الجائرة في الأجور.
«لم لا يخاطب بارني ساندرز جمهوره الملون؟»، تتساءل إحدى المذيعات على قناة «سي ان ان» الأمريكية، وكأن بارني يتحاشى بالفعل ذلك، تحاول الكثير من القنوات المماثلة إخفاء هذا الرابط التاريخي بين مشاكل العنصرية الأمريكية ومحركها الاقتصادي الدائم، لتحول خطابات «ساندرز» الانتخابية إلى «مثالية مفرطة» لا تعير اهتماماً لـ«بعض» الشرائح في المجتمع الأمريكي متعمدة تجاهل قدرة تلك الحلول على إنقاذ شرائح المجتمع الأمريكي كافة.
كل هذا لا يهم!
لقد صوت «بارني» خلال وجوده في مجلس الشيوخ الأمريكي بالرفض على قرارات «فاقعة» بعنصريتها أكثر من مرة، كقرار اعتماد اللغة الانكليزية لغة رسمية للحكومة الأمريكية على حساب اللغات الأخرى، وقرار بناء جدار في وجه المهاجرين غير الشرعيين من المكسيك، والقرار الملزم للمواطنين الأمريكيين بالإبلاغ عن المهاجرين القادمين إلى الولايات المتحدة الامريكية ذاتهم، بقصد العلاج في مستشفياتها، أو بقصد العمل في مؤسسات الدولة العامة، وغيرها الكثير، لكن ذلك لا يهم على الإطلاق، إنه في نظر العدسات الأمريكية عجوز خرف لا يمل من الكلام عن القضايا التي لا تهم أحداً، هو «الأبيض» بامتياز بعد أن أثبتت متابعة خطاباته أيّ ذكر لكلمة «أسود» أو «لاتيني» أو «آسيوي» دون أن يكلف نفسه الحديث عن معاناتهم.
ربما يتوجب عليه أن يبدأ بالتقاط بعض الصور مع جمهور «ملون» في الأسابيع القادمة، إن أراد الإبقاء على حظوظه بالفوز، لن يستغرب أحد كثيراً إن قام هذا «الاشتراكي الديمقراطي» بذلك يوماً ما، فهذا السباق بالذات لم يكن يتعلق يوماً بالبرامج الانتخابية أو الكاريزما الإعلامية، وهناك الكثير ينتظر العجوز «بارني» على الطريق.