الكتابة..رؤية قبل كل شيء!
«القصة في رأيي رؤيا شعرية مكثفة للناس والأشياء ضمن حركيتها وفعاليتها، فالكاتب يرى الحركة في الشجرة، في التمثال الفني الجامد، إلى جانب رؤيته لها في عالم الناس الأحياء ضمن علاقاتهم الاجتماعية وتحركهم ضمن طاقة أجنحتهم الممدودة للانطلاق دوماً، من أجل التغلب على محدودية شروطهم.. وبمعنى آخر، الكاتب يرى الجوهري المكثف، ضمن العادي المكرور، ويحاول أن يطور هذا الجوهري حتى يستطيع كل الناس تبينه من خلال قصصه، وبذلك تصبح الحياة ذات قيمة أكثر من الناحية الجمالية».
بهذه الجملة يختصر الأديب والقاص السوري سعيد حورانية مفهومه عن القصة، الكاتب والنموذج الاستثنائي في ميدان القصة القصيرة، حمل الهمّ الاجتماعي والسياسي، ومثّل مرحلة زمنية مهمة في سورية، رسم ملامحها في قصصه، تشهد على ذلك مجمل المجموعات القصصية التي قدمها منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى تسعينياته.
عن رؤية الكاتب الشعرية!
سادت الواقعية على أعمال حورانية، جسد فيها الحالة الاجتماعية، وكان اتجاهه في القص واضحاً، استلهم مواضيعه من حياته الشخصية وتجاربه، منوعاً في الموضوع والأسلوب والبناء القصصي، فغلب عليها العمق في السرد والغوص في مكامن النفس البشرية، والتكثيف في المضامين، بصيغة أدبية غاية في النضوج والوعي. وكان يرى المعايشة شرطاً من شروط القصة الناجحة، التي يجب أن تصب في النهاية في الهمّ الشعبي، وتلتزم قضايا وهموم ومشاكل الناس، وتسلط الضوء على ما يعانونه. ويوضح في كلام له: «أنّ الكاتب، صاحب الرؤية الشعرية يرى ما لا يراه الناس العاديون، وينقل رؤيته لهم عبر قصصه وفنه الرائع.. إنه وحده بهذه الرؤية الشعرية التي يتمتع بها، يرى أشياء فيها لا يراها غيره من الناس، إنهم يهتمون بالعرض، أما هو فيرى الجوهري وعندما يكتبها قصة يرمز إلى هذا الجوهري ويدفع القارىء العادي إلى تلمسه».
الإبداع من الواقع
ولد حورانية في دمشق عام 1929 وتلقى تعليمه في دمشق وتخرج من جامعتها، مجازاً في الأدب العربي، ثم نال دبلوم التربية، وبعد ذلك اتجه إلى التدريس في سورية ولبنان، ثم انتقل إلى موسكو ليطلع فيها على منجزات الأدب الإنساني وتيار الواقعية الاشتراكية، وعمل في صحيفة أنباء موسكو، وكان يجتمع في بيته في العاصمة الروسية، مساءً، زوار كثر منهم الشاعر محمود درويش والمخرج المسرحي فواز الساجر والشاعر السوداني جيلي عبد الرحمن، وعدد من المثقفين العرب والروس. وبعد عودته إلى سورية، ظهرت أعماله كأهم المنجزات القصصية وعمل في وزارة الثقافة حتى وفاته في الرابع من حزيران عام 1994. وكان عضواً في جمعية القصة والرواية.
كتب حورانية الشعر والمقالة والمسرحية لكن القصة كانت واحته الإبداعية. استقى موضوعات قصصه من ثقافته، وقراءاته المتعددة، والمجتمع الذي يعيش فيه. فجاءت قصصه قاسية تشريحية للبيئة الاجتماعية التي خرج منها، والبيئات السورية المتعددة، التي عرفها من خلال تجوله في مختلف المناطق السورية، والواقع السياسي والصراعات التي كان يعيشها المجتمع السوري، وقد استطاع تصوير ما يدور في المجتمع، ولم يعمد إلى التجميل أو الترميز، الذي يلجأ إليه أحياناً بعض الأدباء، ويشير حورانية إلى ذلك في حديث قائلاً: «عاد ذلك النوع من الكتابة الإنشائية الرمزية لكي يطغى مجدداً. إنني أتابع معظم ما ينشر، وأستطيع أن أقول عن هذا الجيل الجديد الذي يكتب إنه فقير بالتجربة الحياتية، وتحس من كتاباته أن لديه توقاً لأن يكتب القصة ولكن من دون أن يعيشها».
أما الالتزام عنده، فينبع من طبيعة الكتابة نفسها، يؤكد ذلك قائلاً: «أنا شخصياً أكتب لأني لا أستطيع إلا أن أكتب، لم أستطع حتى الآن أن اتخذ الكتابة مهنة أو احترافاً، فانا أنقطع عن الكتابة عندما لا أجد شيئاً جوهرياً أقوله. والالتزام الأدبي ليس فرضاً أو واجباً وإنما ينبع من طبيعة الكتابة نفسها».
التأثر والتأثير!
تأثر في بداية حياته الأدبية بـ«مورباك وأوكسوبيري»، كما قرأ مكسيم غوركي وأعجب به، لكن الأثر الأكبر كان لـ«ديستويفسكي»، كما يؤكد في أحاديثه. وقد أعجب ببعض الكتاب العرب أيضاً، منهم نجيب محفوظ وجرأته على تعرية الفضائح الاجتماعية، والروح المرحة لحسيب كيالي وألوان فاتح المدرس الرائعة، والخيال الشعري لمصطفى الحلاج. أما يوسف إدريس فقد اعتبره القاص الأول في عالم القصة القصيرة.
أهم مؤلفاته: في القصة (وفي الناس المسرة، شتاء قاس آخر، سنتان وتحترق الغابة)، و(سلاماً يا فرصوفيا، عزف منفرد لزمار الحي) مجموعة مقالات، ومسرحيات (صياح الديكة، المهجع رقم 6)، بالإضافة إلى ترجمة (القطة التي تنزهت على هواها)..الخ.
وكتب عن سعيد حورانية الكثير، ومن أهمها: كتاب «أدب القصة في سورية» لعدنان بن ذريل، وكتاب «الأدب والإيديولوجيا في سورية»، من تأليف نبيل سليمان وبوعلي ياسين. وكتاب «السهم والدائرة» لمحمد كامل الخطيب. بالإضافة إلى كتاب «جماليات المكان في قصـص سعيد حورانية» للكاتبة الإيرانيــة محبوبــة محمدي محمد آبادي الذي يتحدَّث، عن السمات الشخصية وارتباطها بالمكان في قصص حورانية. في عام 2004 أصدرت وزارة الثقافة له بمناسبة ذكرى وفاته العاشرة الأعمال القصصية الكاملة، وتضمنت حواراً مهماً لـ«سعيد حورانية».
عرف بشغفه الكبير للقراءة منذ صغره، يتحدث حورانية عن القراءة وأثرها عليه من خلال قصة طريفة، عندما وجد مبلغاً محترماً –في تلك الأيام- فأخذه وذهب ليبتاع الكتب.
«ذات يوم وجدت ثمانين ليرة على الكنبة، تصور ما معنى هذا في ذلك اليوم، ثروة حقيقية فأخذتها كلها ونزلت إلى شارع النصر، وكان بولفاراً آنذاك، شارع على اليمين، وآخر على اليسار، وبين الاثنين بحرات عديدة. كان بائعو الكتب القديمة يبسطون عليها، فاشتريت بالمبلغ كله كتباً من حمزة البهلوان والملك سيف إلى سيرة الظاهر، مروراً بالأميرة ذات الهمة وتغريبة بني هلال وألف ليلة... فحرثتها حرثاً وغرقت في عوالمها الخيالية ومغامراتها المشوقة. وأنا بطبيعة الحال كنت مجنوناً بالقصص منذ صغري».
فاز في سن مبكرة بالجائزة الأولى في مسابقة (النقاد) عن قصته الصندوق النحاسي، وكانت أول قصة كتبها في الاتجاه الواقعي، والطريف في قصة المسابقة هذه أنه شارك بها باسم مستعار هو(تشيخوف) فحجبت اللجنة الجائزة عنه وطلبت من كاتب تلك القصة أن يدل أعضاءها على المكان الذي سرق منه القصة!