غاليانو.. ذاكرة أمريكا اللاتينية المفتوحة
«حين يكون الصوت الإنساني حقيقياً، حين يولد من الحاجة إلى الكلام، لا أحد يستطيع أن يوقفه، حين يمنع عنه الفم يتحدث، بالأيدي، بالأعين، بالمسام أو بأي شيء آخر، لأن كل واحد منا لديه شيء يقوله للآخرين، شيء يستحق أن يحتفي به الآخرون أو يصفحوا عنه»
• أدواردو غاليانو
غيب الموت يوم الاثنين 13 نيسان 2015 رمزاً بارزاً من رموز اليسار في أمريكا اللاّتينية، وأحد أهم وأجرأ كتّابها في العصر الحديث، الذي انتقل من ضفة الواقعية السحرية في الأدب الأميركي اللاتيني نحو ضفة التاريخ، موثقاً محطات بارزة من الذاكرة اللاتينية الأميركية، الكاتب الكبير إدواردو غاليانو عن عمر ناهز 74 عاماً.
بدأ مساره الأدبي صحافياً وناقداً في حقلي الأدب والسياسة، ومن ثم انتقل إلى المسرح، مؤلفاً مسرحيات ذات طابع سياسي، جمع غاليانو بالإضافة إلى الصحافة، الشعر والرواية، وابتكر نوعاً من القصّ ذا الطابع التاريخي، إذ يقدم في مؤلفاته المتنوعة نبذات للإضاءة على زوايا معتمة من التاريخ من خلال سرد صادم وساخر، يمزج فيه بين الإحساس والفكر، وبين الرواية التاريخية والشاعرية، سواء كان موضوعه، الاقتصاد، أو السياسة، أو كرة القدم، التي ألف عنها كتاباً شرح من خلاله الاقتصاد السياسي للرياضة الشعبية في علاقتها بالجاه والسلطة. وعبّر غاليانو عن كل ذلك من خلال تبنيه لمصطلح «التفكير الشعوري» المركب الذي تعلمه من أحد الصيادين.
الصدق هو العنصر الأهم
قبل أن يتفرغ غاليانو للكتابة، تنقل بين الكثير من الأعمال، فاشتغل عاملاً بسيطاً في أحد المصانع، كما عمل رسّاماً، وساعي بريد، واشتغل في الطباعة، وموظفاً في أحد المصارف البنكية، وغيرها. كما تنقّل غاليانو بين الأرجنتين وإسبانيا خلال إحدى عشرة سنة. وكلما حاولت دكتاتوريات أمريكا الجنوبية منع كتاباته، زاد إقبال الناس عليها.
استطاع غاليانو التعبير عن الكثير من القضايا التي تمس الضمير الاجتماعي. من خلال إصراره على أنّ اللغة تأتي دائماً في المرتبة الأولى لما تحمله من الأسرار والألغاز. تميزت كتاباته دائماً بالصدقية وغنى الأسلوب، وهو يؤكد مراراً « يجب على الكتّاب أَنْ يَكُونوا أشخاصاً صادقينَ، لا يَستعملونَ الأدبَ كأداة تجارية، بل كطريقة لإظْهار الكلماتِ والحق الذي يجب أنْ يُقال. ذلك يعتبر شيئاً أساسياً بالنسبة إليّ. إن الكلمات التي تَستحقُّ أن تُقالَ تنبثق من الحاجة لقولها». ترجمت أعماله إلى أكثر من 20 لغة، من أهمها: ثلاثية ذاكرة النار (سفر التكوين- الوجوه والأقنعة- قرن الريح)، أفواه الزمن، المعانقات، مرايا، كرة القدم.. كلمات متجولة الخ... والبعض منها ترجمت بدار الطليعة الجديدة.
حكايات رمزية
في مؤلفاته المختلفة يسرد غاليانو حكايات رمزية، مفارقات، أحلام، سيرة ذاتية، والكثير الكثير من التاريخ والفنتازيا والتعليق السياسي. ويتناول مواضيع متشعبة وممتدة إلى مختلف الاصقاع والأمكنة ومختلف القضايا، يقول مثلاً في كتاب المعانقات، تحت عنوان أخبار معولمة:
«بعد شهور من سقوط البرجين، قصفت إسرائيل جنين. مخيم اللاجئين الفلسطنيين هذا، تحول إلى حفرة هائلة، ممتلئة بموتى تحت الأنقاض. حفرة جنين لها حجم حفرة برجي نيويورك نفسه. ولكن كم من الناس رأوها غير أولئك المتبقين على قيد الحياة الذين يقلبون الأنقاض بحثاً عن ذويهم!».
استقى غاليانو مواد ومواضيع كتبه وأشعاره من مصادر متعددة ومختلفة كالمذكرات، الروايات، قطع الشعر، الفولكلور، كتب السفر القديمة المنسية، والأهم من خلال احتكاكه الحي بالناس، لذلك نجد في كتبه نُتفاً من تاريخ العالم، قديماً وحديثاً، حضاراته، ثقافاته، أعاجيبه، خرافاته، كوارثه ومآسيه. أحداثاً تبدو في الظاهر لا رابط يجمعها، ولكنها تختصر مراحل وتواريخ ومعاناة، بتكثيف عال ورمزية غنية وساحرة.
عندما تكون الكتابة حاجة فقط
يؤكد غاليانو في أحد لقاءاته أنه يكتب فقط عندما يشعر بالحاجة للكتابَة وليسَ لأن ضميره يَملي عليه ذلك: «إني أكْتبُ فقط عندما أشعر بالحاجة إلى الكتابة. تَعلّمتُ ذلك مِن موسيقار كوبي رائع، كان يقرع الطبول ببراعة إذ أخبرني ذات مرة «إني أَعزف فقط عندما أشعر بالحاجة لذلك» وكتاباته لا تنبثق من سخطه على الظلم والقهر فقط، أو تشريح للواقع المرّ، بل هي احتفال بالحياةِ التي تحمل الكثير من المعاني الجميلة والمخيفة في آن واحد.
حاز جوائز عدة منها جائزة «بيت أميركا اللاتينية» وجائزة وزارة الثقافة في الأوروغواي، وجائزة الكتاب الأميركي.
قدّم الرئيس الفنزويللي هوغو تشافيز إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما في العام ٢٠٠٩ نسخة من كتاب غاليانو «شرايين أمريكا اللاتينية المفتوحة»، الكتاب الذي يعتبر سيرة ذاتية لقارة بأسرها، وصندوق لذكرياتها وتاريخ مقهوريها، يفسر ملامحها ويشير إلى آفاق مستقبلها، بلغة سهلة وعاطفة جياشة.
ويكشف طابع العنف الكامن في الاقتصاد ويؤرخ الاستغلال الاقتصادي لأميركا الجنوبية من قبل الولايات المتحدة خلال خمسة قرون. يفتتح غاليانو الكتاب بهذه الجدلية: «يقضي توزيع العمل بين الأمم أن تتخصص أمم بالفوز، وأخرى بالخسران». يتساءل المؤلف عن أسباب فقر أميركا الجنوبية، ويجيب إنها فقيرة لأن الرأسمالية أفقرتها: «كانت هزيمتنا دوماً مضمرة في انتصار الآخرين. ولقد أنتجت ثروتنا دوماً فقرنا من خلال تغذيتها ازدهار الآخرين».
وشغل غاليانو أيضاً عضوية لجنة الرعاية في «محكمة برتراند راسل عن فلسطين» التي تطالب الأمم المتحدة والدول الأعضاء، بإنهاء استثناء الكيان الصهيوني من المحاسبة الدولية، ومحاسبته على جرائمه المتوالية ضد الفلسطينين، وقد أنشئت هذه المحكمة في آذار 2009، على نموذج محكمة «راسل» الشهيرة بشأن فيتنام، وهي لا تملك سلطة قضائية رسمية، بل تعمل كمنتدى لتوعية الرأي العام، ولفت الأنظار إلى الفلسطينيين الذين يخضعون، بحسب تأكيد «هيئة محلفي» هذه المحكمة، لنظام مشابه لنظام «الآبارتايد» أو الفصل العنصري الذي كان متبعاً في جنوب أفريقيا.