الثقافة في التراث

الثقافة في التراث

ورد في نهج البلاغة أن: «الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق..»، فالعالم الرباني من حاز المرتبة  العليا في العلم واستقل بنفسه عمّن سواه، والمتعلم في طريقه إلى يصبح مثل سابقه، والباقون جهّال مقلدون. وورد أيضاً قول آخر يلزم «العلماء» بالعمل على إقامة العدل الاجتماعي: «إن الله أخذ على العلماء أن لا يقاروا على كِظةِ ظالم ولا سغبِ مظلوم». 

• هادي العلوي «محطات في التاريخ والتراث»

لم تكن كلمة مثقف شائعة قديماً، ولم تستخدم لتؤدي الغرض والمعنى المستخدم في العصر الحديث، فهي مستحدثة في اللغة الحديثة، ووضعت مقابل كلمة (intellectual person)، وتعني ذو العقل،  بينما يأتي جذر الكلمة في العربية (ثقف) بمعنى الحذق والفطنة والتهذيب، وأيضاً الرؤية.

 الثقافة.. ما قبل الإسلام

تميزت الثقافة الجاهلية، أي ثقافة العرب ما قبل الإسلام بطابعها الأدبي، وتفوق الشعر لدرجة قيل فيها أن الشعر ديوان العرب. وكانت ثقافة شفوية، غير مدونة في الغالب، ولكون الشعر الشفوي هو مادة هذه الثقافة الرئيسية، فقد كان الشعراء هم المثقفون، مع أن الشاعر هنا قد يكون أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولا يترك تعلم القراءة والكتابة أثراً كبيراً عنده، لانعدام الكتب المؤلفة باللغة العربية أو المترجمة إليها عن لغة أخرى في ذلك الحين.  

واقتصرت الثقافة المدونة في ذلك الوقت على السريانية، وكانت سائدة كلغة ثقافة في مدينة الحيرة، وهي لغة عدد قليل من أهل الحيرة أو الوافدين إلى هذه المدينة لأجل الدراسة والتعلم، ويدل على ذلك عدم وجود سوق للكتب السريانية عند العرب. بينما كانت اللغة العربية لغة الكلام، عبّر الشعر من خلالها عن مضمون الحياة وتفاصيلها، ووثق لوعي الناس ومتطلبات عيشهم.

 وبالإضافة إلى ذلك، استطاع الشعر أن يعكس الكثير من المفاهيم والمضامين المتعلقة بالحياة الجاهلية، سواء التعبير عن حالة الصراع القبلي السائدة في حينها، أو عن أسلوب الحياة المرتبط بالمشاعية، وهي سمة الاقتصاد الرعوي الجاهلي في الجزيرة العربية وامتداداتها في بلاد الشام والعراق خاصة، بعد أن استوعبت موجات القبائل المهاجرة وتنظيماتها الرعوية السابقة للاستقرار والزراعة حسب ما يؤكده هادي العلوي. 

ونجد في الشعر الجاهلي الكثير من الأمثلة والتسجيلات الحية والمباشرة لحضور المشاعية في الاقتصاد، وانعكاسها في الوعي، وقد ميزها ظهورها في الشعر، عن تلك المشاعية البدائية الخالصة التي تكاد تخلو من الثقافة.

فعلى سبيل المثال لا الحصر: ورد في كتاب الأغاني للأصفهاني أن «عروة بن الورد كان إذا أصابت الناس سنين شديدة، تركوا في دارهم المريض، والكبير، والضعيف، وكان عروة يجمع أشباه هؤلاء من دون الناس من عشيرته في الشدة، ثم يحفر لهم الأسراب ويكنف عليهم الكنف ويكسبهم..».

وكان عروة يتغنى بدفاعه عن مبادئه قائلاً: 

دعيني أُطوِّفْ بالبلادِ لَعَلّني

أفيد غنىً فيه لذي الحقِ محملُ

أليسَ عظيماً أن تلمَّ مُلِمَّةٌ

وليس علينا في الحقوق مَعَوّلُ

فإنْ نحنُ لمْ نملكْ دفاعاً بحَادثٍ

تلمّ به الأيام فالموتُ أجْمَلُ 

مرحلة جديدة من التطور

 لاحقاً، ومع نشوء الدولة، حدث تطور كبير على نمط الثقافة، وبعض عناصرها، فلم يعد الشعر، هو النوع الثقافي الوحيد عند العرب، وزالت الكثير من الأسباب التي جعلت من الشعر ديوان العرب، وتغيرت طبيعة التعامل مع الجمهور، الذي كان في الجاهلية جمهور القبيلة، رغم ذلك لم يجر التخلي عن الشعر وظل بوصفه الفن الجميل الأساسي، ولم يُخلِ الشعراء مكانهم في الساحة الثقافية بل استمر وجودهم وحضورهم القوي، ولكن ما تغير هو موقعهم الاجتماعي، إذ ألحق معظم الشعراء بالدولة وأصبحوا تابعين للسياسة الرسمية، وانتعشت قصيدة المدح، وهي قصيدة للتكسب والتعيش تحكمها في الغالب علاقة مالية صرفة، بدلاً من علاقة التعاطف مع الممدوح، وكون الشعراء شريحة جديدة تتمتع في كثير من الأحيان بامتيازات أرباب الدولة. مما هيأ المجال للحديث بدء من ذلك الطور، عن ثقافة سلطة في مقابل ثقافة معارضة. وربما كان الشعر هو المثال الأبرز الذي وضحت فيه الملامح الجديدة للثقافة، لكونه النشاط الأكثر التصاقاً بالسلطة واقتراباً منها. بالإضافة إلى نشوء معارضة للحكام كان لها مثقفيها. 

مصطلحات مختلفة

مع ذلك لم تستخدم كلمة ثقافة أو مثقفون بالمعنى الواسع المستخدم اليوم، فقد استخدم المسلمون كلمة «عالم» للدلالة على من يشتغل بالعلوم على اختلافها دينية كانت أم دنيوية، ولتمييزه عن الأدباء. 

وكان التصنيف يجري على منحيين، الأول: ديني عقائدي يبحث في العلوم الدينية بفروعها المختلفة، والآخر: اجتماعي يمس حياة الناس وحقوقهم وقضايا المجتمع والدولة.. الخ. 

 وقد اختص المسلمون الأوائل بصفة أهل العلم بعض الصحابة ومنهم أبو ذر الغفاري على سبيل المثال، والملفت أن أبا ذر، عاش في البادية ولم يكن له علم حقيقي،  على ما تذكر بعض المصادر لذلك يبدو إطلاق صفة العالم، سواء عليه أو على سواه، استندت إلى أساس عملي، وارتبط بعامل اجتماعي، للدلالة على وعيه الشخصي، ومعرفة أحوال الناس وصراعاتهم ومعاناتهم والانحياز لصف المظلومين والمحرومين، ضد الظلم والجور، وتحولهم إلى قادة بالمعنى الاجتماعي، يمتلكون خبرة في هذا المجال، دون أن تشترط إلى ثقافة بالمعنى الحاضر للمصطلح.

المادة العلمية مستندة إلى كتاب هادي العلوي «محطات في التراث» الصادر عن دار الطليعة الجديدة.