تفاصيل كثيرة.. وحقيقة واحدة!
تتكثف الأسئلة المقلقة والنازفة كل يوم، ومع كل صباح. يوغل السوريون، ومعهم أبناء المنطقة، في بحر الأسئلة التي آن أوان رسوها عند إجابات شافية، وماتزال تصر على البقاء حبراً على ورق..
يزيد الإعلام المشهد غموضاً بدل أن يوضحه، مركزاً على تفاصيل لا تفعل أكثر من زيادة التشويش وخلط الأوراق، تفاصيل تعزز النظرة المرتابة عند مشاهد بات بالكاد يصدق شيئاً مما يقال، بعد أن عاش واقعياً تفاصيل أزمات تجاوزت كل ذلك الذي قيل ويقال.
يغرق الإعلام المشاهدين في الجزئيات، الهامة بلا شك، ولكن على حساب اللوحة العامة التي تحكم سير الظواهر، والتي لا «يليق» بـ«العوام» معرفتها!
ظاهرة العنف غطت الشاشات، موت يترصد الجميع، وحرب تلتهم الأرواح، إنها حقيقة واقعة، لكنها بحاجة لمعالجة أخرى غير فانتازيا الرعب والرعب المضاد التي يجري تسويقها.
عرف تاريخ البشرية كمّاً هائلاً من العنف، وثقت له كتب التاريخ، ولم يقتصر على جغرافية أو بيئة معينة، ولا على شعب محدد، بينما يجري اليوم تسويقه بمنطق محدد وعبر أجندات مخصصة لغايات وأهداف سياسية معينة.
وبضاعة العنف الرائجة هذه الأيام هي «داعش» كما بات الجميع يرى ويعلم. وفي إطار توظيف تلك البضاعة بما يخدم مصالح أصحابها والمستفيدين منها يجري تسويق صورة داعش بأداتين متلازمتين: الأولى هي خلق ماضٍ افتراضي مخالف لذلك الحقيقي، ماضٍ يطابق روايات «المركزية الأوروبية» عن «الشرق الهمجي المتوحش» و«الإسلامي خاصة» حيث: «التشدد والتخلف وقطع الأطراف والرؤوس.. إلخ» باجتزاء واضح للتراث وللوقائع، فهل ينبغي أن نحاكم «الحضارة الغربية» مثلاً انطلاقاً من أفعال «الحملات الصليبية» أو من أحكام «محاكم التفتيش»؟ المرحلة الثانية هي تصوير «داعش» وأفعالها باعتبارها تكراراً لذلك الماضي واستعادة له..
بهذه الطريقة تجري محاولة حرف انتباه الناس عن «اللوحة العامة».. «عليكم فقط التفكير بالتفاصيل، ببشاعة هذا التنظيم، وبشاعة ممارساته، بفرضه لباساً محدداً، بفرضه للجزية، بقطع الأطراف.. إلخ» وليس مطلوباً ولا مقبولاً التفكير بموقع هذه الـ«داعش» ضمن السياق الكلي للحدث، وليس مطلوباً أن يتساءل الناس: كيف لتنظيم بهذا التخلف أن ينتج أفلاماً سينمائية من الطراز الهوليوودي، والإشارة هنا ليست إلى رفعة المستوى التقني فقط ربطاً بهوليود، بل وأيضاً بمنطق هوليود وطريقة عملها و«رسالتها» حيث يبدو أي فلم من أفلام «داعش» كجزء من سلسلة أفلام الرعب «SAW» أو «المنشار» حيث «التقطيع على أصوله»! التي تعرض على MBC2 وشقيقاتها.. فهل كانت هوليود أيضاً وطرق عملها جزءاً من «التراث الإسلامي»!؟
إذا كان إنجلز قد تنبأ بأنّ الرأسمالية في نهايتها ستضع البشرية أمام خيارين إما الانتقال إلى الاشتراكية أو التوغل في الهمجية، فإنّ التقاطع بين هولييود و«داعش» هو رغبة هؤلاء في التوغل عميقاً وعميقاً في الهمجية، وتكريسها في وعي الناس باعتبارها مستقبلهم الذي لا مفر منه، بل وأيضاً باعتبارها «ماضيهم» الذي لا بد لهم من العودة إليه في نهاية المطاف!!