فتاة على السور ليلة رأس السنة
«في المدينة الصغيرة بنتٌ صغيرة تقف على حافة السور في حديقة منزلها ليلاً منتظرةً قدوم بابا نويل».. أمشي اليوم على أطراف أصابعي وأتسلل إلى تلك الذكرى القديمة. كي لا تنتبه البنت لوجودي، فتجفل..
كان والدها قد أخبرها أن الزائر المنتظر سيأتي قريباً. وبعد إلحاحها أخبرها الأب بالوجهة التي سيقبل منها الضيف. لم يكن صعباً أن تتكهن بأن صاحب دكان الألعاب الصغير في حيّها سيتنكر على عجلٍ ببدلة حمراء أكبر من مقاس جسده. وأنه سيلصق على وجهه النحيف الأسمر لحيةً منتوفةً مصطنعة تثبت بخيطٍ وراء الأذن. إلا أن ذلك لم يكن يهمها حقاً. فهي تدرك أن الحكاية كلها محض خدعة. وأن والدها هو من يشتري الهدايا، أدركت ذلك مبكراً منذ اقتنعت باستحالة عبور أي بابا نويل من “قسطل” مدفأة منزلها الضيقة المشحرة.
هكذا وبواقعية ووضوح، انخرطت في اللعبة، وأدت دور فتاة صغيرة تؤمن بأن قصص الخرافات قد تصبح حقيقية.. انتظرت قدوم الزائر دون أن تصدقه.
هناك على السور، في لحظاتٍ قصرت أو طالت. وقفت الفتاة فارغة الصبر. الضيف تأخر، شغلت نفسها بأكل بضع رقائق من كيس البطاطس «طبّوش». الطعم اللاذع للكاتشب والخل، تتذكره حتى هذه اللحظة. تتذكر أيضاً الصمت الذي كان يلف المدينة. لطالما غلّف السكون مدينتها، لم يكن ذلك بالأمر الجديد. إلا أنه وفي تلك الليلة كان صمتاً قلقاً. فوراء حيطان البيوت أناسٌ يستعدون للاحتفال. طعامٌ يطبخ في القدور على النار. ماغي فرح تتنبئ بمصائر قد لا تحدث وحبٍ قد لا يأتي. وفي زاوية عشرات المنازل يترك التلفاز مفتوحاً على قناة ال lbc التي كانت تستعد كل عامٍ لتغير حياة شخصٍ ما إلى الأبد وتدفع النسوة والجدات وضعاف القلوب إلى البكاء.
لكن الفتاة ما تزال واقفة على السور. الهواء البارد ينعشها، الصمت ينعشها والترقب ينعشها. كانت سعيدة. تلك اللحظات التي لا مجال للتأكد الآن إن طالت أو قصرت، لأن الذكرى ونفاذ الصبر أتلفها، كانت لحظات سعيدة. الفتاة الكبيرة الآن لا تتذكر الهدية التي حصلت عليها ذلك العام. ولا تتذكر أيضاً لحظة دخول بابا نويل إلى منزلها. تحمل ذكرى مشوشة لصوت جرسٍ اخترق سكون الليل وغطى عيوب تاجر سيئ التنكر. تتذكر الشعور بالأمن وهي تعلم أن خلفها منزلاً متين الأساسات. وفي داخل البيت عائلةٌ تحبها وتنفذ مسرحية سيئة الإخراج كي تجعلها سعيدة. تلك اللحظات القليلة من الترقب والتوق والأمن هي ما يهم الأطفال حقاً في كل مكان، ويصنع ذكرياتهم. وذلك تحديداً ما فقده الأطفال السوريون منذ أربعة أعوامٍ وحتى الآن، طوال أيام السنة وصولاً إلى رأسها، أولئك الصغار الخائفون الذين لا أسوار لهم ولا بيوت ولا عائلات..