سعيد عقل.. وعودة جدل فصل «الثقافي» عن «السياسي»..

سعيد عقل.. وعودة جدل فصل «الثقافي» عن «السياسي»..

مرة أخرى يعيد الموت تحريك مياه النقاشات الراكدة حول المثّقف ودوره ومواقفه الوطنية والإنسانية. هذه المرة كان دور سعيد عقل. المشكلة تكمن أن عقل لم يتخذ مثلاً مواقف حيادية، منفصلة عن الواقع. لم يكن حبيس «برجه العاجي»، مفصولاً عن مجتمعه، كما يكون المأخذ على بعض المثقفين. بل على العكس من ذلك امتلك، من كتب «لا أنت حبيبي» و«وبحبك ما بعرف» من أغاني فيروز، آراء ومواقف معلنة وصريحة، ولكنها متطرفة ومثيرة للاشمئزاز. وكان ذلك كافياً لتحديد موقفٍ واضحٍ منه، لو لم يكن شعره جميلاً إلى هذه الدرجة في نظر البعض.

مرة أخرى يحدد الموت الذي يغيّب الأجساد فقط، أي أثرٍ وأفكارٍ وكلمات ستخلد إلى الأبد. اختار البعض أن ينعوا عقل قائلين: «ما بتجوز على الميّت غير الرحمة». واكتفى آخرون بنشر أشعاره والحداد عليه دون أدنى إشارة إلى مواقفه السياسية الأخرى. أحدهم قال: «بقي من سعيد عقل ما يستحق أن يبقى.. شعره». وحدهم من كانوا الأكثر شجاعة حاولوا التذكيّر بمواقفه، وأرفقوها ربما بمقاطعٍ من شعره. لم يكن كل ذلك مجرد كلام ٍ غزا الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي ونشرات الأخبار، بل اختصرت كل عبارة سابقة تياراً سائداً اليوم في الحكم على «عقل» وغيره من الرموز الثقافية.
في أحد مقاطع الفيديو التي أعيد تداولها تحت اسم: «انحطاط الشاعر سعيد عقل» يظهر الشاعر الأشيب وهو يطالب بـ«تنظيف لبنان من آخر فلسطيني»، باعتباره المطلب الذي يريده لبنان. يشد الحماس الشاعر فيصرخ قائلاً أنه وعندما دخل ما أسماه «الجيش الإسرائيلي» ("حاف" بدون جيش الاحتلال) على لبنان «كان على جميع اللبنانيين أن يهبوا للقتال في صفه». لأنه هو الذي «سيسحق رأس الأفعى الممثل بالإرهاب» حسب تعبيره، معلناً في نهاية اللقاء «أن من يقول عن "الجيش الإسرائيلي" بأنه جيش «غزو» يستحق أن يقطع رأسه». وفيما نشر آخرون صورة للصفحة الأولى من جريدة «لبنان» والتي كان يصدرها عقل بالعامية. وخصص المانشيت الرئيسي يوم 17 كانون الأول عام 1982 لشكر «أبطال صبرا وشتيلا» على مجزرتهم، علماً أنه وفي مفارقة أخرى يظهر عقل ذاته في فيديو لاحق بعد ذلك بسنوات وهو أكثر شيباً ليتحدث عن عدائه المستحكم لـ«إسرائيل»، وليس الكيان الإسرائيلي، ولكن على خلفية دينية، لا أكثر.
هذا وتربط بعقل سلسلة من التهم التي لم يحاول إنكارها، بل كان كل ما فعله طيلة حياته تعزيزها والافتخار بها: مثل عنصريته وترويجه لفكرة «لبنان الفينيقي». هذا إلى جانب كونه من دعاة تغيير الحرف العربي إلى اللاتيني.
يستغرب البعض، كيف استطاع سعيد عقل أن يكتب شعراً بهذه الرقة ويبرر في الوقت نفسه قتل آلاف الفلسطينين واللبنانيين على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي. ويطالب بإبادة أحياء كاملة من لبنان تبعاً لمحددات طائفية وعرقية، ربمّا يعود ذلك إلى موقف هؤلاء من علاقة الثقافي بالسياسي ومحاولة الفصل بين العمل الإبداعي «قصيدة الشعر، الأغنية، القطعة الموسيقية» وبين السياق التاريخي السياسي الوطني لصاحبها.
والحقيقة أن الموت يعري الأحياء وحدهم. لأنه يكشف أياً من تلك الأجزاء المتعلقة بحياة من رحلوا هي الأهم بنظرهم. من يختار اليوم أن يذكّر بعنصرية المتنبي إزاء العبيد ومواقف جان بول سارتر ورجعية  دستويوفسكي  كي يؤكد أن الأفكار والأشعار الجميلة تبقى، والتاريخ الأسود لهؤلاء يزول، يحاول بصورةٍ أو بأخرى تبرير موقفه أو مواقف غيره اللاوطنية، أو العنصرية، أو الطائفية، باعتبار كل ذلك سيمسي ذكرى مشوشة. والمثير للسخرية أن الذين ينادون بفصل آراء عقل السياسية عن فنه، هم ذاتهم من أشعلوا حرباً ضد مواقف زياد الرحباني السياسية مثلاً، ولم يلتزموا بالفصل الذي يروّجون له بين الفن والسياسة. ولذلك لا بد من ملاحظة أن المرثيات التي تكتب بحق عقل «السياسي» تعبّر عن درجة الانزياح الخطيرة لهؤلاء في الموقف المعلن من «إسرائيل» اليوم.
لماذا لا تستعاد اليوم النماذج المضيئة الأخرى على الطرف المقابل، أمثال ناجي العلي وغسان كنفاني الذين كانوا مبدعين متفردين وامتلكوا مع ذلك قيماً وطنية لا تزول. نعم، ربما، شعر سعيد عقل جميل لكنه لا يشفع له، الكثيرون منّا اليوم، وحين الانتهاء من قراءة قصيدة جميلة خطّها أو الاستماع إلى أغنية كتبها، يتنهدون طويلاً ويطلقون لعنة أو شتيمة، سترافق اسمه إلى الأبد.