«اللعب» مع الإرهابيين
تعد وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية مطبخ الشرور الأشهر في تاريخ العالم المعاصر، فقد تفتق من عقول روادها العديد من الأفكار والتطبيقات العملية لمبادئ السيطرة النفسية والاعتداء الممنهج على العقول والقلوب
ربما يعد أغربها ما تسرب عن وثائقها العام الماضي عن قيام الولايات المتحدة الأمريكية قبل عدة عقود بالبحث عن السبيل المناسب لإسقاط لحية الرمز الكوبي «فيدل كاسترو» عن وجهه، حيث بينت تلك الوثائق قيام مجموعة عمل سرية تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية بوضع الكثير من السيناريوهات التي تستهدف إسقاط شعر «لحية» كاسترو بأي وسيلة لأنها رمز جاذبيته ومصدر «الكاريزما» الخارقة التي جمعت حوله أبناء شعبه، وفقدانها يعني فقدان سلاح «كاسترو» السري، على كل حال قد تبدو هذه الفكرة غريبة ومضحكة في ذات الوقت، لكن وثائق هذه السنة حملت فكرة أغرب تم إعدادها في تلك الوكالة منذ عقد من الزمن، وهذه المرة إنها أكثر عمقاً وجدية من لحية «كاسترو»!
إنه مشروع «عيون الشيطان».. وفكرته بسيطة للغاية، قامت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في العام 2005 بالتعاون مع أحد أشهر مصنعي ألعاب الأطفال في الصين بخلق لعبة صغيرة لشخصية «الشيطان الأكبر» أسامة بن لادن، لكن المثير للاهتمام في هذه اللعبة هو «انسلاخ» وجهها بعد فترة من الزمن وذوبان قطع البلاستيك التي تغطي وجهه الحازم ولحيته المهيبة ليظهر تحتها وجه أسود عليه خطوط شيطانية حمراء وعيون خضراء تقدح شرراً مرعباً، يهدف كل هذا إلى إخافة أطفال أفغانستان وسواها من هذا الرجل، ومقاومة وجهة نظرهم المشجعة لهذا الرمز «الجهادي»، ظن مهندسو هذا المشروع بأن هذا الانسلاخ المفاجئ سيدفع الأطفال إلى عدم تصديق «الدعاية المنزلية» لهذا الرجل، وربما سيخاف الكبار أيضاً، في النهاية، يعول الأمريكيون على ارتباط بعض أركان المجتمع الأفغاني المتخلف بالخرافات والأساطير الشعبية!
التأُثير والتحكم النفسي
كانت النية إرسال تلك الألعاب «المعدلة» إلى أفغانستان مع مجموعات الكتب والحقائب واللوازم المدرسية، وتم الاتفاق على تسليمها إلى بعض الجماعات الإنسانية الأفغانية المرتبطة سرياً بوكالة الاستخبارات الأمريكية، وضعت الألعاب في صناديق زرقاء للذكور ووردية للإناث، لكن الوثائق صرحت بأن المشروع أجهض في اللحظة الأخيرة لأسباب مجهولة وبقيت تلك الألعاب «الشيطانية» في الصناديق، حيث صرح مسؤول في الوكالة يدعى «رايان تراباني» بعد نشر هذه التسريبات في صحيفة الواشنطن بوست مؤخراً وببيان (معلب): «إن وكالة الاستخبارات المركزية لم تعمل على تصدير تلك الألعاب إلى أي مكان في ذلك الوقت، كما أنها تنفي علمها بأي جهة أخرى عملت على مشاريع مشابهة أو قامت بإرسال أي من ألعاب مشابهة.. انتهى.. «مما يفتح المجال للكثير من التفسيرات وبالأخص عندما أدلت صحيفة الواشنطن بوست باستحالة التأكد من أي من المشاريع الخاصة بالوكالة خلال العقد الماضي بالذات، وتحدثت عن تكتم غير اعتيادي عن مثل هذا النوع من المشاريع المتعلق بشؤون «التأُثير والتحكم النفسي».
مناهضة فكرية..
تملك وكالة الاستخبارات الأمريكية، بغض النظر عن استمرار المشروع أو توقفه، عدداً لا بأس به من المشاريع المتعلقة بالتأثير الفكري والثقافي عن الشعوب الأخرى، فعلى سبيل المثال تسجل الوثائق ضلوع تلك الوكالة في تأسيس ما يسمى «راديو أوروبا الحرة» و«راديو الحرية» في ذروة أيام الحرب الباردة، بالإضافة إلى تأسيس عشرات دور النشر الخاصة المتعلقة بتلك الإذاعات، وكانت غايتها التأثير على الشباب السوفييتي في تلك الأيام ومناهضة دعاية المؤسسة الحزبية هناك عن طريق ترجمات غير دقيقة لبعض المؤلفات الفكرية السوفييتية باللغة الروسية وتوزيع مجموعات من الكتب ذات الطابع المناهض للأفكار الحزبية «الحمراء» والتي تستسيغ على الدوم أسلوب «الستارة الحديدية» لدفع الشبيبة هناك للنفور من الطابع الفكري المنتشر هناك، وباللغة الروسية.
رسائل مبطنة..
كما تسجل ذات الوثائق قيام وكالة الاستخبارات المركزية بتوزيع المساعدات الإنسانية بعد انتهاء الحرب الباردة للعديد من دول العالم عبر العديد من الواجهات المزيفة كان أشهرها توزيع مجموعات فاخرة من «كرة القدم» للشعب «الصديق» في جزيرة هاييتي قبل شهور قليلة من الاجتياح العسكري الكبير للجزيرة في العام 1994، كما فضحت مجموعة التفجيرات التي استهدفت قاعدة «تشابمان» في مقاطعة «خوست» الأفغانية قبل عدة سنين الكثير عن شبكة استخباراتية معقدة مؤلفة من تسعة ضباط كبار قتلوا جميعا في تفجير انتحاري في العام 2009، كانت هذه القاعدة المركز الأكبر لبث الأخبار وتحليلها ورصد أصدائها والتعاون مع الكثير من الأفراد المدنيين من شبان القبائل تحت سن الثامنة عشرة في إطار دعاية إعلامية دقيقة وموجهة للعائلة الأفغانية قبل أي شيء آخر.
واليوم، يستطيع المتابع الحذق رصد الكثير من الرسائل المبطنة التي تعمل تلك الوكالات السرية على بثها عبر قنوات التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزة عبر العالم، ترافقها التجمعات الثقافية حول الكتب والأفلام والمسرحيات والمنتديات الاجتماعية، فقد كانت على الدوام الوسيلة المثلى للوصول إلى مفاصل الحركة الثقافية في أي من بلدان العالم الواسع، لكن تركيز تلك الوكالات على الطفل كحاضنة أساسية للتغيير الحقيقي في تلك المجتمعات يفتح المجال واسعاً لربط قصص «الألعاب» البسيطة مع منظومة أكبر وأكثر عمقاً تريد بناء مستقبل جديد يسلم أبناؤه بالطاعة المطلقة لسياسات الاستغلال والهيمنة دون أن يفكر أي منهم بالمقاومة أو الحاجة إلى قلب الطاولة على رؤوس أصحابها والدعوة الحقيقية إلى التغيير.