«كولومبوس».. أهلا بك في ديارنا..

«كولومبوس».. أهلا بك في ديارنا..

أعلنت نجوم الليل الصافية إنتهاء الأسبوع الخامس من رحلته المضنية هذه، رفع رأسه نحو السماء وحدق في بهاء القمر الذي ظل ينير دربه طوال ذلك الوقت، أحس بأنه اقترب من هدفه، وسرعان ما وافقت عيناه قلبه، إنها كتلة معتمة تظهر من بين الضباب لتحتل الأفق للمرة الأولى، «اليابسة!» صرخ البحارة المنهكون بأعلى صوتهم وتدفقوا إلى أطراف السفينة على عجل لإلقاء النظرة الأولى على الأرض الموعودة، أرض الخيرات والغنائم بعد أيام طويلة على هذه السفينة.

مع طلوع الصباح، نزل الرجال بقواربهم الصغيرة ووصلوا بسرعة إلى الشاطئ العذري المحرم على الأغراب منذ الأزل، لتبدأ معها مرحلة دموية من التاريخ الأمريكي الأسود ما زالت صيحات الاستهجان ترافقها لأكثر من خمسة قرون من الزمن.

«يوم كولومبس»..

لقد اتخذ الأمر منحى شخصياً للغاية، وتحول المستكشف الأول والأشهر لتلك البلاد «كريستوفر كولومبس» إلى أيقونة تاريخية مثيرة للجدل، وتحول خطؤه الملاحي الفظيع إلى فرصة استكشافية للـ «العالم الجديد».
أطلق بسذاجة اسم «الهنود» على السكان الأصليين لتلك المساحات الساحرة من الأرض، لأنه ظن أنه قد وطئ شواطئ الهند المنشودة، فتحول هذا التاريخ المشؤوم إلى يوم تاريخي وعطلة رسمية لكثير من بلاد الأمريكيتين والذين رزحوا لسنين طوال تحت رحمة سواطير المستعمرين وأسلحتهم النارية.
يتناسى التاريخ الحديث حملات موسعة للتطهير العرقي قادها «المستكشفون الأوائل» وما لحقها من نهب واغتصاب لثروات تلك الأرض المعطاء، ليبقى فقط في الذاكرة أحد أيام الأسبوع الأول من تشرين الأول من كل عام المسمى بكل وقاحة: «يوم كولومبس» كعيد وطني ومناسبة سعيدة لذلك «الاجتياح الدموي»!!
بدأ هذه النوع من المناسبات «الوطنية» بالظهور بعد انحسار سطوة المستعمرين الأوائل عن بلدان الاحتلال الأمريكية، وحمل هذا اليوم عدة أسماء أظهرت مدى التناقض وروح السخط مما تمثله هذه المناسبة بالذات، ففي الولايات المتحدة الأمريكية يتم الاحتفال سنوياً بـ«يوم كولومبس» في الاثنين الأول من شهر تشرين الأول منذ العام 1793، لكنه يحمل أسماء مختلفة، كيوم «التصالح» ويوم «الغفران» وغير ذلك من المسميات التي تحاول جاهدةً التخفيف من قسوة الاسم الذي لطخ يديه بدماء الأجداد من السكان الأصليين، وقامت ولاية داكوتا الجنوبية في العام 1989 بتغيير الاسم إلى «يوم السكان الأصليين» بعد ضغط شعبي عارم تبتعتها ولاية كاليفورنيا بعد عامين لتتبنى الاسم ذاته، لكن ذلك لم يكن كافياً.

ليس هذا فحسب..

حدث الأمر نفسه مع بقية دول الأمريكيتين، أطلقت أسماء متنوعة على الأعياد «الوطنية» لاكتشاف تلك الأراضي من قبل المستعمرين الأوروبيين، فكان الخامس من تشرين الأول «عيد الاكتشاف» في كل من هاييتي و البرازيل، واحتفل المكسيكيون بالثاني عشر من تشرين الأول بـ«يوم السباق» أي سباق المستعمرين الإسبان على المستعمرات! وامتد هذا الاسم ليغزو بقية دول أمريكا الجنوبية ككوستاريكا وجزر الباهاماس والأرجنتين وفنزويلا طوال السنين الأخيرة من القرن الماضي، حيث تم تغييره في تسعينيات ذلك القرن وتحت ضغوط كبيرة إلى «يوم الثقافات المحلية» أو «يوم السكان الأصليين» كتعويض بسيط عن سنين الاستغباء الفكري.

تشافيز.. هكذا يكون التغيير

أطلق الرئيس الفنزويلي الراحل «هوغو شافيز» صرخة استنكار في العام 2002، حيث أعلن تغيير اسم ذلك اليوم من «يوم السباق» إلى «يوم المقاومة الشعبية للسكان الأصليين»، ثم ظهر في خطاب متلفز في اليوم التالي وهو يقلب باشمئزاز أحد الكتب المدرسية التي تعود إلى العام 1970 وقال: «لقد علمونا أن نبدي الاحترام والتقدير لكريستوفر كولومبوس وأمثاله، تخيلوا بأن الأوروبيين ما زالوا يريدوننا ان نحتفل بهذا «الاكتشاف» بعد كل هذه السنين من المجازر!!». بعد أيام أصدرت وزارة التربية والتعليم والفنزويلية قراراً يقضي بمراجعة فصول الكتب المدرسية وفي جميع المراحل لـ«تنظيف» تلك المناهج من البقايا الاستعمارية التي تمجد «الفاتحين» الأسبان بأي شكل.
بعد سنتين تجمع الكثيرون من مؤيدي فكر الرئيس شافيز في ذكرى «يوم المقاومة الشعبية للسكان الأصليين» في العاصمة كاراكاس وأسقطوا تمثال «كريستوفر كولومبوس» في الساحة الرئيسية، رافعين الشعارات التي تصفه بالسفاح الأول في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، كتب المتظاهرون الغاضبون على قاعدة التمثال المهدم العبارة الشهيرة: «سقط كولومبوس الطاغية في الثاني عشر من تشرين الأول في العام 2004»!!.
تحولت هذه الأفعال إلى شرارة أشعلت الأمريكيتين، بدأت منظمات حقوقية كثيرة ترفع الصوت باعتراف رسمي لحقوق السكان الأصليين وتطالب بإسقاط الصور اللماعة لرموز الاستعمار، يظهر الرئيس الإكوادوري رافائيل كوريا بزيه الشعبي القديم الذي لا يفارقه أمام العديد من أنصاره على الدوام، ينتهز الفرص دائماً لشكر مناصريه من سكان تلك البلاد الأصليين الذين سيساعدوه على «إعادة خلق البلاد على الخطوط الاشتراكية» كما يقول، تزامن ذلك مع تصريحات للرئيس «إيفو موراليس» من بوليفيا في ذلك الوقت، يفخر الرجل بأصوله الغارقة في القدم ويعلن من على المنابر البدء «بسياسة تعتنق روح الثقافة المحلية في مواجهة الإمبريالية الأمريكية».
وبدأت اجتماعات دورية تعقد للكثير من المنظمات الأمريكية وبدأت الدعوات لتوقيع العرائض والالتماسات الشعبية لتصل إلى أعلى المستويات كما اجتمعت «حركة الهنود الأمريكيين» وأعلنت أنها لن تهدأ حتى يختفي اسم «يوم كولومبس» من تقويم جميع الولايات المتحدة الأمريكية ودول الأمريكيتين ليحل محله «يوم السكان الأصليين» على أقل تقدير.
قد يظن البعض بأنه مجرد اسم قد لا يستحق مثل هذا الحراك، لكنه في نظر الكثيرين لطخة سوداء في تاريخهم وتاريخ أجدادهم، إنه الرمز الأكثر وقاحة والأشد وضوحاً على عدم مبالاة الفكر الاستعماري بثقافة وروح السكان الأصليين.
لقد غزوا البلاد واستعبدوا الناس واغتصبوا ونهبوا كل شيء وزيفوا قروناً من التاريخ الدامي بعد أن سرقوا الخيرات والحريات، «لا.. إنه جزء بسيط مما يجب فعله..» تجيب امرأة سمراء من بوليفيا ترتدي الزي الشعبي الزاهي وهي ترد على أسئلة أحد الصحفيين «مشكلتنا لم تكن يوماً مع الاسم.. بل مع ما يمثله هذا الاسم من احتقار لروح وثقافة السكان الأصليين الذي فقدوا ملايين الأرواح لتغذية أطماع الغزاة.. هل تريد مني أن أسكت وأصفق لذلك..؟! أبداً..».