حدث في مخيم خان الشيح
الطريق أقصر مما كنا نتخيل. الطريق المفخم بشاخصات مرورية تحدد مسافة الوصول إلى الحدود، وتحذر من الاقتراب، تلاشت تحت وقع الأقدام فقط. تحولت بوصلة الاتجاهات، بدون مسافة، إلى فلسطين.
هل تلاشت المسافة حقاً؟ هل اختفت الحواجز أو تكاد؟ هل تخلصنا ببساطة من الوهم الذي زرع فينا لعقود طويلة؟ لا تبدو الإجابات مهمة أو ذات معنى بعد أن عرف الطريق بكل التفاتاته وتعرجاته الداخلية والخارجية. وتأكد أن طريق العودة أقصر بكثير من درب النزوح.
شوارع المخيمات، لن تعود بعد ذكرى النكبة الثالثة والستين كما كانت قبل هذا اليوم.
سيارات الإسعاف التي اخترقت مخيم خان الشيح لساعات طويلة، جعلت الأمهات المسمرات أمام الشاشات، لسماع أخبار أبنائهن، يغلقن كل المحطات، ويهرعن إلى شوارع المخيم. فالأخبار هناك حية وأكثر صدقاً.
سيارات الإسعاف نفسها راحت تصدح بصوت جديد، مستبدلة صوت الإنذار الذي عودتنا عليه، بهتافات لشباب فلسطين عبر مكبراتها: «حيوا شباب فلسطين».. «حيوا الأبطال»..
رغم قلق الأمهات على مصير الأبناء الغائبين لم يتساءلن وهن يسمعن هذه العبارات، عمّن تتم له الإسعافات الأولية داخل سيارات الهلال الأحمر؟ فالقلوب في هذه اللحظات تغطي كامل التراب الفلسطيني. كل مصاب هو ابنها، وكل شهيد هو وليدها. هم شهداء فلسطين، كل فلسطين، من القدس حتى آخر مخيم على خريطة الألم.
تصل الأخبار وتجوب كل أزقة المخيمات.
ـ عبروا الحدود، تراجع الإسرائيليون المدججون بالسلاح..
ـ الإسرائيليون خائفون.
ـ ثلاثة شباب استشهدوا، والإصابات بالمئات.
نساء فلسطين اللواتي دفعن أبناءهن إلى العودة تساءلن سريعاً عن جهة الرصاص؟
الجواب المطمئن الفرح جاء برداً وسلاماً على قلوبهن: «من الأمام، من الأمام»..
راحت كل امرأة تعيد للأخريات أنباء خوف الإسرائيليين من الشباب، وتسرد بفخر متمنية أن يكون ابنها بين الذين عبروا الحدود، مخترقاً الأرض المحشوة بالألغام.
اختلطت أصوات الأمهات لتصبح صوتاً واحداً: «حذروهم من الألغام لكنهم اخترقوها بأقدامهم العارية.. فكوا الألغام.. يرمون الشباب بالغازات السامة.. رفع علم فلسطين داخل الجولان.. الإسرائيليون يتراجعون خائفين.. رفرف العلم على مصفحاتهم»..
الفلسطينيون الذين حذفوا من قاموسهم مفردات الخوف والموت، سيعودون.. سيعودون، لأنه ما من مستحيل..
مستحيل على من داس الألغام مخترقاً الغازات السامة ليرفع الراية على مدرعات العدو، أن تبقى الحدود حاجزاً أمامه أو في وجهه... مستحيل على الشيخ المسن الذي تقدّم الشباب أن ينسى حقّه مهما طال الزمن..
مخيم خان الشيح، الذي عاش يوماً تاريخياً بقلق الانتظار وفرحة العودة لن يعود إلى الوراء. لحظة الحسم بدأت، ومن هنا سيبدأ الزحف..