لم نعطهم حقّهم..

لم نعطهم حقّهم..

شهداء اليوم ليسوا صوراً في كتب التاريخ، أو تماثيل جامدة في الساحات العامة.. هم أناس عاشوا بيننا، ربما صادفت أحدهم عند البقالية، أو لمست كتف آخر في الباص طالباً منه أن يوصل  نقودك إلى السائق..

هم كانوا أزواجاً وآباء وأخوة وأصدقاء لآخرين فينا، كان لكل واحد منهم وجه، وطريقة في الكلام أو المشي، وعادات صباحية.

أما لنا- نحن الغرباء عنهم- فهم مجرد قوائم طويلة تصلنا على صفحات الانترنت، تحتوي أسماءهم ومكان استشهادهم، أو رقماً يزيد أو ينقص في الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية، ونشرة الأخبار، وجريدة الصباح.

شهداء اليوم، مدنيون وعسكريون، ماتوا على أرض معركة وهمية، دون أن يتعرفوا وجه قاتلهم أو اسمه.. دون أن يعوا أنهم في معركة.. دون أن يتخذوا قرارهم بالموت أو يودعوا عائلاتهم ويلغوا مخططاتهم المسائية..

دفعوا حياتهم ثمناً لحياتنا.. لكن ماذا فعلنا نحن؟ أقل ما يمكن أن يقال هنا إننا لم نعطهم حقهم...

لم نعطهم حقهم عندما سمحنا بموتهم على أرض بلادهم دون وجود عدو واضح يقاتلونه فعلاً.. دون أن نفضح قاتلهم أو نحاسبه، ليكتب في شهادات موتهم «قتل في ظروف غامضة من قبل جماعات مسلحة، أو قنَاصين مجهولين!! وليسموا بعد ذلك  شهداء الإصلاح، كما لو أن من الطبيعي أن يموت أناس في سبيل الإصلاح!.

لم نعطهم حقهم مرة ثانية عندما سمح البعض لنفسه أن يلوم قسماً منهم على الفوضى والخوف والحزن الذي نعيشه الآن، كما لو أن ذلك ذنبهم.. أو أن يُلعن «بو عزيزي» ذاك الشهيد الأول الذي أضرم ناراً في جسده وبموته ذاك اشتعلت بلدان بأكملها..

لم نعطهم حقهم عندما سلبناهم وعائلاتهم لحظات الموت الأكثر خصوصية وسلاماً،  لتتحول لحظة الموت تلك إلى مقاطع فيديو يتاجر فيها البعض أو نشاهدها على التلفاز  مراراً و تكراراً، معتقدين أننا بمجرد رؤيتها، واحتمال مشاهد القتل والدماء، نقوم بواجبنا نحوهم ونريح ضميرنا المذنب.

لم نعطهم حقهم عندما صادرنا حقوقهم الأخيرة حتى بعد موتهم، عندما سمحنا لبعض وسائل الإعلام أن تقسمهم في قبورهم بين «شهداء» و«قتلى»، لتسلبهم المساواة في الموت، بعد أن سلبوا المساواة في الحياة.

لم نعطهم حقهم نهاية عندما انشغلنا عن موتهم،  بخوفنا على حياتنا، ما أنسانا من أجل ماذا استشهدوا ولأي هدف..

لكي نعطيهم بعض حقهم لابد لنا أن نحول الأرقام وجوهاً، والأسماء المجردة  قصصاً تروي حكاية  الشهداء ومن كانوا، وأن نثأر لموتهم بإصرارنا على إكمال ما بدؤوه أو ما لم يستطيعوا أن يبدؤوه، وأن نتعلق بالحياة، حياة نصنعها نحن دون مساعدة من أحد، ونبني عالمنا على النحو الذي نختاره.. والذي يخلّدهم..