قصص حمراء من «الأرض الجديدة»

قصص حمراء من «الأرض الجديدة»

كانت ظهيرة يوم صيفي حار، ركن الشاب «ألفارو» ذو التسعة عشر ربيعاً سيارته أمام مدرسته الثانوية في ولاية كارولاينا الشمالية الأمريكية، لم تمض بضع دقائق حتى سمع الجميع أصوات الأعيرة النارية، استل الصبي بندقيته وأمطر الجميع بوابل من الرصاص، سقط اثنان من التلاميذ على الفور، حاول البعض إخضاعه، لكن ما حدث قد حدث، طوقت الشرطة المكان واقتربت من الصبي الذي ما زال يلهث، وضع سلاحه على الأرض، واقترب من الشرطة مبتسماً مستسلماً، ذهل الرجال من برودة أعصابه، لكن المفاجأة الكبرى كانت قد حدثت قبل ساعات، لقد ترك الصبي والده مضرجاُ بالدماء في بيته، بعد أن أرداه بالبندقية ذاتها، ثم قاد سيارته إلى المدرسة!

مضى على هذه الحادثة اليوم ثماني سنوات، لكن الناس هناك يعلمون أنها لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، اكتشفت الشرطة لاحقاً رسالة الكترونية كان قد أرسلها الشاب «ألفارو» إلى ناظر المدرسة صباح ذلك اليوم، «عزيزي الناظر.. خلال ساعات سيسمع الجميع أصوات إطلاق النار في المدرسة، أنا مسؤول عن ذلك، يبدو أن الناس بدأت تنسى «كولمبين»، أنا أذكره جيداً، وعلى الجميع أن يذكره أيضاً، أنا آسف، وداعاً..»، ينظر الشاب إلى «كولمبين» هذا على أنه بطل مغوار، إنه من أطلق النار في العام 1999 في مدرسة في ولاية «أركنساه» الأمريكية، قتل وقتها 13 تلميذاً ثم انتحر!

السلاح.. قصة حب أمريكية

تتجدد أصداء هذه الحادثة في هذه الأيام، تتداول الأوساط التشريعية الأمريكية مشاريع قوانين لتنظيم تملك واستخدام السلاح، تشيد الكثير من المنابر الإعلامية بجهود الرئيس أوباما منذ توليه الحكم لتقليص الأثر السلبي للسلاح في الشارع، الجميع يعلم بأنه لن يستطيع مقاومة جماعات الضغط التابعة لشركات تصنيع السلاح في الولايات المتحدة الأمريكية، إنه حتى لا يريد ذلك، إنه من كبار حملة الأسهم فيها، وكل ما نراه اليوم هو كذبة جديدة، في المقابل تشير الإحصائيات إلى مصائب كبرى، حيث يأتي الشباب الأمريكي في المرتبة الأولى في شراء وتملك الأسلحة الفردية، تأتي اليمن في المرتبة الثانية وبنصف القيمة!، يتهكم البعض قائلاً: «يبدو أن العيش مع الجنود الأمريكيين في أفغانستان أكثر أماناً من العيش في شيكاغو»، الإحصائيات حولت هذه النكتة إلى حقيقة بـ 87 حادثة إطلاق نار قاتلة تسجل يومياً في الشوارع الأمريكية!، في غمرة الزوبعة الإعلامية تلك، لم يتطرق أحد إلى أصل المشكلة، لم تكن الأسلحة بحد ذاتها سبباً للعنف هناك في أي يوم من الأيام، إنها الطبيعة العنيفة للمجتمع الأمريكي التي حافظت على خلود علاقة «الحب» الأزلية بين الأمريكي وسلاحه.

تحكي لنا صفحات التاريخ الكثير حول هذا الموضوع، لقد تم غزو الأراضي الأمريكية من قبل المستعمرين الأوربيين، وهم لم يكونوا من نخبة ذاك المجتمع، إنهم المنبوذون المغمورون من قاع أوروبا، وبالطبع، لم يكن التنوّر والتسامح من مزاياهم، حملت الحرب الأمريكية الأولى بين المستعمرات المتنازعة بحاراً من الدماء، ترافقها حملات التطهير ضد سكان البلاد الأصليين، حيث تشير الإحصائيات إلى انخفاض عدد السكان الأصليين من الهنود الحمر في تلك القارة الجديدة من أكثر 12 مليون قبيل الاستعمار الأوروبي إلى 237 ألف في أيامنا هذه!، تستفزنا الكتابات الأولى عن «أبراهام لنكولن» محرر العبيد والبطل القومي الأول، تمتلئ صفحات الكتب بإنجازاته حول سن قوانين الإعتاق، لم يتحدث أحد عن الـ750 ألف إنسان من ضحايا حربه الكبرى وغزواته لـ«تحرير» أولئك «العبيد»، وتجاهل الكثيرون حادثة مشابهة عاصرت تلك المرحلة، لقد قام القيصر الروسي ألكسندر الثاني بإعتاق أكثر من 23 مليون عبد من دون أن يقتل أحد بحجة ذلك!.

«صانعو السلام»..

على كل حال، استمرت الحروب الأهلية الأمريكية بالتهام الأرواح، واكتسبت فعالية كبرى مع ازدهارها صناعة السلاح الناري، لقد ساعدت بندقية «الوينشستر» من طراز العام 1837 على اكتساح الجبهات، وبقيت إلى وقت طويل فخر الصناعة الحربية الأمريكية، يرافقها المسدس الشهير «كولت – بيس ميكر» أي «صانع السلام..!!» الذي نراه على الدوام في أفلام الغرب الأمريكي، لا يمكن تجاهل السخرية التي يحملها اسم ذلك السلاح.

وإلى اليوم بقيت السياسة الأمريكية تعمل تحت الراية الدموية ذاتها،  تحولت البندقية إلى طائرة من دون طيار، وتحولت الرصاصة إلى صاروخ، ولن تتعدى وظيفة أي تشريع حول ذلك تشريع عملة القتل الانتقامية تلك، ولن تحفظ الأرواح التي تعاني يومياً من غسيل ممنهج للأدمغة والأمزجة، كما صرح مؤخراً المتحدث باسم «جمعية حملة السلاح القومية» حيث قال مبتسماً: «إن الشيء الوحيد الذي يستطيع إيقاف أحد الأشرار المسلحين هو أحد الأخيار المسلحين!!» لا داعي للاستغراب هنا، لقد اعتقد المستعمرين الأوائل أنهم حطوا على أرض جديدة عذراء فور وصولهم إلى الشواطئ، لكنهم فوجئوا بوجود حياة أخرى أكثر بساطةً وجمالاً تجري وتزدهر وتتحدى ضيق أفقهم، كان العنف والإلغاء هو الحل، لتصبح هذه السياسة عنوان ميراثهم لقرون لاحقة، وهنا تبدو كلمات الجنرال الأمريكي «سميدلي باتلر» الذي توفي في العام 1940 والحاصل على ميدالية الشرف لمرتين في مكانها حيث قال في مذكراته:

«أمضيت عمري في الدفاع عن الشركات الكبرى، عن أصحاب البنوك ورؤوس الأموال، لقد كنت رجل عصابة ولم أكن جندياً يوماً، أحد جباة الرأسمالية، ساهمت بسلاحي في تأمين مصالح شركات النفط الأمريكية في المكسيك في العام 1914، ساعدت رجال البنك القومي الأمريكي في تأمين أرباح خيالية في كوبا وهاييتي، أسهمت في اغتصاب حرمة أكثر من ست دول في أمريكا الوسطى كرمى لعيون رجال البورصة، قمت بتطهير نيكاراغوا لتسهيل المشاريع الاقتصادية الأمريكية منذ العام 1909، أنا صاحب الفضل في إنجاح مشاريع استيراد السكر من جزر الدومينكان بقوة السلاح في العام 1916..»ولائحته تطول وتطول..