حماية التراث ليست ترفاً
قد يبدو الحديث عن حماية التراث والآثارفي سورية نوعاً من الترف في ظل الأزمة الخانقة التي تمر بها البلاد، وقد يكون الأمر صحيحاً لو لم تمتثل أمامنا تجارب سابقة تدلنا على خطورة ذلك على مستقبل البلاد.
وقد يكون أهمها تجربة العراق حيث استطاع الاحتلال الأمريكي أن يزيل النظام السابق، ولو شكلياً، ولكنه لم يستطع إزالة شعب وحضارة ستظل موجودة مادام هذا الشعب موجوداً، إذ لا يمكن لأي احتلال أن يبيد حضارة ما إلا بإبادة الشعب كله وهذا مستحيل.
وتجري في الجولان الآن، تنقيبات في محاولة حثيثة من الاحتلال الإسرائيلي لتحوير التاريخ وتغييره وإثبات وجودهم هناك، وجرت المحاولات نفسها في جنوب لبنان، ولكن لم يستطع الإسرائيلي حتى الآن تنفيذ مخططه لأن الانسان في هذه الأرض يعي الفكرة وهو متشبث بأرضه، فأهل الجنوب قرروا الموت في أرضهم على أن يسمحوا للاحتلال بذلك، وهو درس يستفاد منه في جعل المهمة الأولى منع التدخل الخارجي واحتلال البلاد، لأن ذلك يسمح للمعتدي بالمحاولة.
كما يوجد العديد من النواقص التي عززت حالة الإهمال والتقليل من شأن قضية التراث منها المناهج الدراسية، إذ لم تعط هذه المناهج التراث حقه، رغم ارتباط بعض مواده بها، كالتاريخ والجغرافية والأدب واللغة، بالإضافة إلى تمثله كعلم في حياتنا اليومية، مالذي يمنع تعليم الأطفال مثلاً عن طريق اللعب، شيئاً عن حضارات سورية من العصر الحجري وحتى الآن، خاصة أنهم قادرون على تشرّب تراثهم والاهتمام به من الصغر، وتثبت تجارب بعض الشباب المتطوعين للعمل مع الأطفال في التراث اليوم ذلك. ومن النواقص الاخرى أيضاً حقيقة كوننا نمتلك أول أبجدية في العالم، ونتغنى بها دون أن نعرف عنها شيئاً. ومن إحدى المفارقات أن توجد تسع مجلات دورية متخصصة في العالم للبحث والحديث عن حضارة اوغاريت فقط وباسمها، ونحن لا نمتلك ولا دورية واحدة، ولا حتى مترجمة عنها!!
لقد أفرزت الأزمة السورية حالات وظواهرغريبة من مثل المناداة بالتآخي بين الأديان، تآخي اسلامي مسيحي يهودي بين أبناء البلد الواحد والثقافة الواحدة، والدعوة للحوار فيما بينهم، والإيهام ان هناك مشكلة حضارية بينهم!! ولكن في الحقيقة الحوار المطلوب ليس له علاقة بالدين، إذ أثبتت الازمة أن مايحتاجه السوريون فعلاً اليوم أكثر من أي وقت مضى هو حوار سياسي لحل القضايا المرتبطة بالأزمة وتحقيق التغيير المنشود والسير بالمجتمع نحو الأفضل، أما الدين فهو ثقافة ايضاً، والحوار عادة يكون بين ثقافتين مختلفتين (الغرب والشرق مثلاً)، وليس بين أبناء الوطن الواحد مهما كان انتماؤهم الديني، لأنهم يمتلكون الثقافة نفسها، فالحوار يكون مع المختلف. وفي الحالتين (الحوار السياسي بين أبناء الوطن على قضاياهم المشتركة أو الحوار مع ثقافة الآخر، الغرب المختلف، يجب أن يكون حواراً حضارياً وسلمياً، فنحن شعب نمتلك حضارة عريقة، وليس صحيحاً ما يجري أشاعته وتعميمه من أننا شعب همجي لا يعرف إلا السلاح لغة بين أفراده، فالانتماء لسورية الوطن أولاً.. خاصة أن المعركة اليوم بجوهرها هي معركة الهوية الوطنية، ولا تتعلق بمواقف طرفي الصراع (النظام أو المعارضة ) وما يكيله كل طرف للآخر من اتهامات عند تعرض الآثار للتخريب والتدمير والسرقة، وخاصة من بعض المزاودين الذين يرمون الآخرين بتهم الخيانة في الإعلام، في محاولة منهم لاستثمار الموضوع سياسياً، وإخراج كتلة هامة وكبيرة من السوريين خارج أطار الوطنية لمجرد اعتبارهم من المعارضة، ومع ذلك يكشف تطور الأزمة هذه الألاعيب ويفضحها يوماً بعد يوم. وتتضح الحقائق للكثير من البسطاء الذين شاركوا بهذه المعمعة، مما يجعلهم يحاربون كل أشكال المساس بتراثهم وتاريخهم.