سردية الألم والحلم

سردية الألم والحلم

طفتِ الشمس.. شَعلتِ الشمس.. أي غابت وأشرقت..

هكذا يُعبّر الصغير عَلِي عن أحاسيسه ومشاعره البسيطة بلغةٍ أبسط..

هكذا يعبر الصغير علي الذي لم يتجاوز الخامسة بعد.. وهو يُمعن النظر فيما حوله بتفكيره الشبقُ إلى المعرفةِ وفضوله اللامتناهي..

الصغير علي..كلما استيقظ مبكراً وقبل أن يرضع كأس الحليب ، يُلحّ عليّ كثيراً لآخذه إلى نهر (الفراتِ) بالتاء الديرية الصفيرية المشبعة بالكسر. وكنا ما أن نصل إلى النهر.. حتى تبرق عيناه من أشعة الشمس المتكسرة على صفحة الماء المنساب بهدوءٍ.. التي ما تلبث أن ترتد إليها وهي تبدو صافية كمرآة عروسٍ في ليلة عُرسها وكلما أمعنتِ النظر فيها تشعرُ بالسعادة.. كما تشعّ أكثر كلما ألقى حصاةً في الماء حيث تنتشر سواوير الفرح، ويحاول أن يُمسك بها لكنها تتكسر أيضاً كأشعة الشمس لكن على الضّفةِ ..

أمّا شام التي أوشكت على تخطّي العاشرة، فهي تفرح كثيراً كلما قرأت لوحةً تحمل اسمها ونحن نسير في شوارعِ الدّير.. أو كلما سمعت فيروز وهي تشدو (شآم أنتِ المجد لم يغِبِ) وكانت كلما زارنا أحد الأقارب أو الأصدقاء تهرع إليه لتلقي عيه قصيدة (عصفورة الحرية) التي ألقتها في اعتصامٍ جماهيري..

وجود ذات الثلاثة عشر ربيعاً (حقيقياً).. الصبية الموهوبة بإلقائها الشعري.. والتي كانت تقود التظاهرات السلمية في مدرستها (أيام ما كانت سلمية)  وتقود حتى من هم أكبرُ منها سنّاً وهي تهتف: حرية.. سلمية. ومنذ أيامٍ كتبت على صفحةِ اليوتيوب بعد أن صرنا مهجرين في دمشق: عُذراً أيها المصريون.. الدّير أمّ الدنيا..

حسين الذي بدأ يستعدّ لمعركة البكالوريا وهو من الأوائل.. هُزم رغماً عنه بالتهجير، وهو يمتنع الآن عن قراءة كتبه التي أحضرها معه، بينما كان سابقاً منذ انصرافه من المدرسةِ ينبطح على كتبه ودفاتره ليلتهم منها المعرفة قبل أن يأكل لقمةً واحدةً من طعام الغداء..

وسام الأكبر والطالب الجامعي في قسم اللغة الانكليزيةِ بجامعة الفرات.. للآن لم يعرف نتائج امتحان الفصل الثاني بعد أن أضاع أغلب مواد الفصل الأول بسب حزنه على ابن عمته الشهيد الرفيق زهير..وهوقد اعتقل سابقاً عندما كان يوثّقُ بالصور للحراك الشعبي السلمي وحوصر هو وزملاؤه في الكلية من قوى القمع، كما أنّه لا يستطيع خوض امتحان الدّورة التكميلية بسبب  تهجيرنا..

الحاجّةُ أمّ علي ذات الخمسة والسبعين عاماً رفضت التخلّي عن بيتها ومغادرته حتى الموت.. لكنها تراجعت عن قرارها عندما أدركت أن حياة أحفادها في خطر.. وعندما أيقنت أننا لن نغادر بدونها.. لكنها رفضت مغادرة الدّير وذهبت إلى حي الصناعة ذي الهدوء النسبي حيث ابنتها لكنّ هذا الهدوء انتهى أيضاً بعد أيام فرحلت مرغمةً إلى القرية..

العم صالح عميد الأسرة وآخر (مُلاّ) أي شيخ كتاب ما زال على قيد الحياة وبلغ عمره حوالي المائة عام وهو الذي فقد ثلاثةً من أبنائه وحفيده الذي استشهد ولم يبكِ.. اغرورقت عيناه بالدموع وكان يلتفت خلفه وهو يصعد السيارة بصعوبةٍ مغادراً إلى الرقة مع ابنه وكأن هذا الرحيل هو اقتلاعٌ لشجرةٍ معمرةً من جذورها ورحيلٌ عن الحياةِ أو ستكون هناك (مائة عامٍ من العزلة) كما كتب ماركيز..

جدّ الأولاد التحق بنا في دمشق في اليوم التالي وقد أصيب مساءً برصاصة قناص في يده اليسرى عندما أراد جلب حفيدته المحاصرة منذ الصباح في المدرسة بعد أن قدمت امتحان آخر مادة في الثانوية وهي مادة (القومية) وقد قال لعنصر الأمن على الحاجز عندما سأله عن سبب اصابته بأن تكسر الزجاج هو السبب حتى لا يتمّ توقيفه وربما يعتبره مسلحاً رغم سنه الكبير.

خال الأولاد الطبيب لم يغادر وبقي في المشفى لعله ينقذ ما يستطيع من الجرحى والمصابين.

هذهه الأسر مثل أغلب الأسر التي عانت وتشردت وقدمت الشهداء في الدير والبلدات والمدن في الوطن.. وطننا سورية، وهي كلّ يومٍ تسترجع ماضيها الذي ما زال حياً في ذاكرتها القريبة وتغرق في حاضرها المضطرب والممزق وتغشى عيون أفرادها عن مستقبلٍ مجهولٍ ربما سيكون أكثر عتماً..

أمّا قصة الرحيل والنجاة من الموت فهي لا تقلّ مأساويةً، فقبل المغادرةٍ بأسبوعٍ كامل.. أسبوعاً من الحصار والاشتباكات والقصف العشوائي، حيث كنّا نتجمعُ في الغرفة الوسطى لأنها أكثر أمناً من الغرف الأخرى.. أسبوعاً دون كهرباء ونور إلاّ بقايا أضواء شموع ذابلةٍ في الليل والماء أصبح ضعيفاً بسبب تهتك الشبكة، وتبقّى القليل من مخزون مؤونة الشتاء التي استهلكت قبل أوانها.. واستمرار الاشتباكات والقصف وطول أمدهما إلى الآن يبين عجز الطرفين عن الحسم ويوحي أنّ هناك تواطؤً بين قسمٍ من المسلحين وبعض قوى القمع والفساد من الأجهزة الأمنية والرسمية لأنّ أغلب الشهداء من المدنيين.. وأنّ المداهمات التي كانت تتمّ يكون المسلحون قد غادروا قبل حدوثها بقليل..

الطرقات تقطعت ووسائل المواصلات قد اختفت، وإمكانية الرحيل تكاد تكون شبه معدومة، ولولا (الباص) الذي جاء إلينا من دمشق لينقذنا لكنا الآن ربما أمواتاً . فقد انطلق من دمشق في الخامسة صباحاً ووصل في العاشرة لكنه لم يستطع الوصول إلينا في دوار غسان عبود الذي أصبح كأنّه الحدود، واتجه شرقاً إلى حي الصناعة حيث تجمعت بعض الأسر من الأهل والمعارف.. سائق الباص سطّر بطولةً وشجاعةً وغامر بحياته وبالباص الذي يملكه والذي أصبح بالنسبة لنا كأنه سفينة نوح التي ستنقذنا من طوفان النار.. الأمهات يحتضنّ الصغار ولا يفرقن بين أطفالهنّ ونشيجهنّ المكبوت يتعالى.. وسار بنا الباص في الحارات الضيقة بصعوبة ليتحاشى الشوارع الملتهبة وكذلك خرج بنا من المدينة من بين المقابر بعيداً عن الحواجز وأماكن القصف العشوائي..وقد حاول السائق أن يخفف عنّا بوضع بعض الأغاني لكن الأغلبية قد ناموا من التعب بعد أن أحسوا ببعض الأمان.

وصلنا دمشق قبل المغيب وتوزعنا على عدة بيوتٍ من الأقارب والمعارف لكن المأساة لم تنته حيث حطت بنا الرحال في ركن الدين، وكادت الأمور تتكرر عندما تغلغل المسلحون في الحي لولا تدخل العقلاء الذين سألوهم لماذا جئتم ..؟ فأجابوا لحمايتكم. فقيل لهم هل أنتم قادرون على حماية أنفسكم.. غادروا حتى لا تجلبوا لنا البلاء وقبل أن تأتي أبابيل التدمير..وخرجوا في الصباح المبكر قبل مجيء الجيش لتطهير الحي.. ومع ذلك لم تغب الصورة حيث نستمع كلّ يومٍ للقصف على بعض أحياء دمشق وريفها,, والبيوت الهشة المبنية عشوائياً وعلى عجل ترتج مع كلّ قذيفةٍ ومفاتيح بيوتنا في الديرالمعلقة على الجدران تصطك مع كلّ واحدةٍ ولا ندري أين تسقط ومن ستصيب..

الأخت التي نزلت في ببيلا عادت وتهجرت إلى دوما ومن دوما إلى بستان الدور ثمّ إلى ببيلا وكأنهم بني هلال في تغريبتهم..

بعد شهرين من الرحيل الأمور على حالها بل تزداد سوءاً والتقت عائلتنا مع عائلة الصديق أبو مجد.. التقينا ليلاً واستذكرنا رائحة خبز التنور التي كانت تملأ الحارات، ورائحة الخضروات الزورية المروية بماء الفرات والتي تشدّك وتنعشك من عشرات الأمتار .

مرّ العيد ولم نستطع أن نشتري الفرحة للأطفال باستثناء الصغير علي الذي حصل على حذاء كان بحاجةٍ له وغفا في الليل والحذاء بحضنه..

اتصالات المهجرين من الحسكة والرقة المتقطعة بل النادرة.. أنتم في دمشق متى سنعود إلى الدّير هل هناك أمل..؟ هكذا كانوا يسألون ..

بصعوبةٍ كبيرة استطعت الاتصال بالقرية وسماع صوت الوالدة التي رتلت بحزنٍ وأمل اللقاء الذي لم تفقده.. هلوا واحنا نهل.. يا محلا لم الشمل.. يا دنيا خلّي أحبابنا.. يضوون شمعة ببابنا.. وعيونكم ما نمل.. وعيونكم ما نمل .. هذا الأغنية التي غنّاها المطرب العراقي فاضل عواد عندما حدث التقارب السوري العراقي في الثمانينيات..!

حلم الرجوع إلى الديار لم يغب رغم صور الدمار والأخبار.. أحد الكبار يصرّ على الرجوع ويقول : على الأقل سأجد من يدفنني ويقيم ليَ العزاء فلست قادراً على شراء حاجات المعيشة فكيف أستطيع شراء قبر لي.. هناك القبر مجاني..! هل عاد زمن الجاهلية.. أسيقف الديري على أطلال مدينته وينوح على أحبابه.. أم هو جرحٌ نازفٌ لكل الوطن..!؟