سركون بولص: أهــو عـــرس أم مــــأتم ؟
د.فاضل سوداني د.فاضل سوداني

سركون بولص: أهــو عـــرس أم مــــأتم ؟

هاهو سركون يذكرنا : «أن تعرف كفايتك من الألم في هذا العالم العنيد، وأنك كنت تغذي أسطورته بكل بيت تكتبه كأنه حجر الفتيلة». لنحاول هنا أن نقرأ إحدى قصائده التي يزخر فيها ديوانه «الحياة قرب الأكروبول»، وهي قصائد لها طابع يومي أسطوري وكأنها قصيدة واحدة هي: 1- زفاف في تبة كركوك 2- حياة الميكانيكي عبد الهادي من باب الشيخ (رجل من الستينات) 3- بستان الآشوري المتقاعد .

ولأن سركون يمنح دائماً الواقع إمكانات الشعر كعلامة، لأنه القادر على كشف الشعرية في الواقع أو أن حلم الشاعر في أن يعيش الواقع شعريا، ولهذا فإنه يمنحه ما هو غير موجود، بل إنه يخلقه خيالاً شعرياً ليعيد توازن الأشياء والكائنات والألوان والكواكب والنجوم التي تخفق كأجفان كائنات. وتحت هذه السماء ترن أصوات الملاعق على الصحون وطرق الكؤوس في سلسلة لا تنتهي من الأنخاب في قصيدة (زفاف في تبة كركوك)، إنه عرس الفقراء الأسطوري الذي تختلط فيه الكائنات والأشياء في هارمونيا وانسجام لا مثيل له، وها هو الشاعر يدخلنا البيت الذي يعتبره فردوس الفقراء الصاخب تحت ضوء  القمر والنجوم .

وسركون يقطع رومانسية وشعرية الصورة بغثاثة الواقع عندما تعلق الفوانيس فوق الحبال «وعامل المصافي» الذي يبدو كائناً فيه الكثير من الغرابة بأصابعه الناقصة وهو يرقص رقصة أحادية ويحاول إغراء الناس بمواهبه الخفية إذ هو يرقص «كالفرس الجريح» كما في القصيدة.

والآن لنرسم هذه الصورة تشكيلياً، إنها وببساطة تذكرنا ببعض من شخصيات الفنانّين بروغل وبوش لأنهما رسماها كنماذج متقنة الجمال والقبح في واقع واقعي غريب . ففي لوحة سركون الشعرية: كل طفل هو خذروف بشري بروح المشاكسة الغروتسكية .

«كل طفل خذروف بشري أباحت له المناسبة نعمة الهيجان، يدّوم حول مائدة العروس (بقرة في اكتنازها لكن لها وجه ملاك) وأمام صف عجائز عمشاوات يجلسن كالخفافيش في الكراسي الأمامية ، تنحني إحداهن فجأة إلى الأمام بسرعة العقاب لتنشب خطاطف أصابعها في ظهر صبي ضاحك ربما لكمها بحقيبة مدرسية ما زال يحملها، كخرج الراعي ، كحزام حول الرقبة ، ينفلت منها بمهارة ليستأنف دورانه حول الحلبة بعيداً عن شفتي المومياء التي تهس كالأفعى المجفلة وراءه ، في اللثة دائماً سن طويلة كمشنقة تنحني على رابية متحدية سقوطها خلفاً إلى الهوة التي يصدر عنها الهسيس، يتعثر اللسان المتعب وينسحب بشكل عشوائي إلى الوراء في محاولته للكلام».

فإذا فكرنا بمرادفات الكلمات والمشابهات لاكتشفنا بأن: طفل = خذروف، وامرأة = عقاب، وعجائز = خفافيش، المومياء = أفعى، وسن = المشنقة... إلخ.

إنه واقع وهو في الوقت ذاته أسطورة .

وفي مثل هذا العرس  الواقعي والأسطوري الصاخب يتم فيه تحول الكائنات إلى أشكال غريبة فالعجائز العمشاوات يتحولن إلى خفافيش، وعندما تنحني إحداهن تتحول إلى عقاب لتنشب خطاطيفها في ظهر صبي أزعجها، وشفتي المومياء تهس كالأفعى المجفلة، وبلغة تجريدية غنية ومتوحشة يحاول الشاعر أن يصف لنا حالة الإنسان المأساوية وخاصة عندما يتربص له رفيق الحياة (الموت) وهو جالس القرفصاء بقربه منتظراً فرصته الأبدية حتى لحظة الانقضاض. إنه سركون بولص الذي يخلق لنا حالة من التناقض المأساوي والغروتسي معا، في وصفه العرس الذي ينقلب إلى مسخرة مأساوية من المصير البشري والزمن في واقع يفرض على الشاعر التشبث بمجانيته ولا يمكن التخلص منها إلا بالشعر.