نكوص إلى رحم (الزمن الآمن)
خلال السنوات الثلاث الماضية، ومع تعقد الوضع الميداني والمعيشي في البلاد، وازدياد الخطر والضغوط النفسية، برزت ظاهرة (مثيرة للاهتمام) على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، عبّرت عن نفسها من خلال حالات(النكوص) الجمعي، وموجات(الحنين) لمراحل الطفولة وبرامج ومجلات للأطفال. (ذكريات التلفزيون السوري)، (مجلة أسامة)، (الزمن الجميل)، وغيرها من صفحات الفيسبوك حظيّت بمتابعة وتفاعل شرائح كبيرة من مستخدمي الإنترنت الذين أعادوا فتح صناديق الذاكرة لإخراج قصاصات أوراق من كتب القراءة القديمة خطت عليها قصائد (ماما ماما يا أنغامَ) و(قفز الأرنب)، واستذكروا الألعاب والأغاني الشعبية التي اعتادوا ترديدها في باحات المدارس وحصص الرياضة. كثر بصورة خاصة إعادة مشاهدة مسلسلات رسوم الأطفال القديمة عبر اليوتيوب مصحوبة بشتى عبارات الاشتياق والحب لأصدقاء الطفولة.
إذا ما حاول المرء تقييم قائمة برامج الأطفال التي تربى عليها السوريون جيلاً بعد جيل، سيميّز مرحلتين متمايزتين: أولها موجة القصص العالمية والحكايات الروسية المدبلجة، وما تلاها من مسلسلات (جزيرة الكنز)، (توم سوير)، (صاحب الظل الطويل)، (الليدي أوسكار)، وكلها برامج شاهدها محظوظو أجيال السبعينيات والثمانينيات. جاءت بعد ذلك حقبة التسعينات وما تلاها، بمدٍ من أفلام الكرتون الدموية، أبطالها كائنات خيالية هلامية قبيحة، قبل أن يحمل البث الفضائي مجرة (سبيستون) بكواكبها المختلفة مروّجة لمستوى أخطر من العنف وثقافة الاستهلاك.
لا تخفى الفروق الجذرية والنوعية الهامة بين المرحلتين ابتداء من جمال وإتقان الرسوم وصولاً إلى القيم والمبادئ السامية التي سعت أعمال الحقبة الأولى إلى زراعتها بوصفها رسائل ودروس عالمية تنفع لأطفال العالم أجمع في كل زمانٍ ومكان. لكن وبالرغم من وجود تلك الفروقات، لا يمكن إنكار أن القائمين على برامج الأطفال أضاعوا أداةً هامة كان يمكن توظيفها ببراعة بغرض تكريس هوية وطنية سورية وغرس مبادئ وقيم مرتبطة بثقافة وبيئة المنطقة.
تعرف السوريون الصغار على جبال الألب مع هايدي وجدها قبل أن يعرفوا جبال الزاوية والشيخ والقلمون. وأخذوا مع الليدي أوسكار دروس الثورة الفرنسية قبل أن يقرأوا تاريخ بلادهم الخاص، هؤلاء كانوا الأكثر حظاً، لأن الأجيال اللاحقة لم تحظ حتى بدروسٍ مماثلة، جلّ ما شاهدته كائنات عابرة للقارات والأمم والكواكب متجردة من القيم، إن لم تكن تروّج للسيئ منها.
كانت تلك البرامج في كليتها مغتربة جغرافياً وثقافياً عن البيئة السورية، إذا استثنينا برامج (ماما فاتنة)، و(زينة الدنيا) المنتجة محلياً، وهي برامج عذّبت الأطفال السوريين و أضجرتهم بتقليديتها وتصنعها وضعفها، بدلاً من أن تسهم في ترميّم الفجوة المتسعة بينما ما يشاهده الأطفال على التلفاز وما يعيشونه كل يوم.
يمكن في هذا السياق استذكار أن الإعلام المصري كان أكثر وعياً لهذه القضية حينما أنتج عام 1993 مسلسل الرسوم المتحركة (بكار) وبطله طفل نوبي من جنوب مصر يرتدي الثياب التقليدية، دارت أحداث المسلسل في جغرافيا مصر، وأدى الفنان (محمد منير) أغنية الشارة تقول بعض كلماتها: (من قلبو وروحو مصري والنيل جواه بيجري).
طوال سنوات تذرّع القائمون على برامج الأطفال بغياب الميزانيات القادرة على تمويل وإنتاج رسومات متحركة سورية، وكان فقر الموارد حجة كافية لتبرير شراء مسلسلات كارتون رخيصة تملأ ساعات البث بالضجيج والقتل. قد يمضي المحللون السياسيون والباحثون الاجتماعيون سنوات وهم يدرسون الأسباب التي أدت إلى انفجار البلاد، يتساءلون من أين أتى كل هذا الكم من التشوهات والعنف في المجتمع السوري. وسيخلي أصحاب القرار السياسي والثقافي والاقتصادي مسؤوليتهم عن زرع العنف في نفوس الكبار الذين كانوا صغاراً. لا تشكل برامج الأطفال سوى تفصيلٍ صغير ضمن منظومة ثقافية كاملة أسهمت في تأسيس جيلٍ مغتربٍ، غاضب، خائف، يعود اليوم ليبحث في ثنايا الذاكرة عن بقايا طفولةٍ آمنة كطفلٍ صغيرٍ يحاول الاختباء في خزانة أمه هرباً من (الأشرار) و(الوحوش).