جدارية درويش (2-2): السَّفَر في سِفْر التاريخ والحياة والموت
لا يكتفي درويش من الحداثة بذلك بل يمتشق خياله المجنح ويشهره في وجوه المنظرين من أرباب الحداثة وكهنة ما بعد الحداثة متكئا على إيقاع البحر الكامل أكثر بحور الشعر حركات.. ليثبت من جديد أن التفعيلة ما شاخت ولن تشيخ.
في مجال الخيال يستخدم التصوير الكلي الممتد الحافل بالظلال والألوان والتصوير الجزئي: تشبيه_استعارة _كناية. بل حتى الصور التراثية طوعها للحداثة حتى باتت صورا حديثة مبتكرة ضمن السياق البلاغي الفني.
لا يتسع المجال للحديث المسهب عن هندسة الشاعر لقصيدته فقد تعهدها بالرعاية حتى غدت شجرة وارفة الظلال فيها فاكهة الإيجاز والإطناب.. والبلاغة_ كما هو معلوم_ هي: مراعاة مقتضى الحال.. كما إنها مكتظة بالتداعي اللفظي والمصاحبات اللغوية والطباق والمقابلة.. وقد كرر بعض المفردات والجمل لا على سبيل الزينة اللفظية فحسب بل هي حاجة نفسية وشعورية.
أما الموسيقا فالشاعر_ كما هو معلوم_ ضليع بالإيقاع متمكن منه إلى أقصى حد وهو لا يخفي ولعه بالبحر الكامل _متفاعلن_غير أنه استخدم تفعيلات أخرى مثل _ فعولن _فاعلن_ يبدو أنها الرغبة في إثارة الانتباه وشحذ الذهن.. والقوافي مطلقة ومقيدة حسب الحالة النفسية وقد تضافرت الموسيقا الخارجية مع الموسيقا الداخلية لتضفي على النصوص إيقاعا عذبا أخاذا. أما التضمين فقد كان معبرا إلى أقصى حد كما مزج بين التراث والحداثة مزجا لا يشق له غبار.. وأكاد أجزم: إن درويش وحده أتقن هذه اللعبة كونه لم يسع وراء موضة الحداثة المفتعلة.. لأنها في نظره تطور طبيعي.. فكل الحداثويين الحقيقيين نهلوا من حليب التراث، وليس من الحليب الاصطناعي المستورد من هنا وهناك وهنالك.. ربما لهذا السبب نرى درويشا مقبولا من ذوي كل المدارس والاتجاهات الشعرية شرقا وغربا.
إن «الجدارية» سجل حافل باللغة الحبلى والإيقاع الجميل والخيال المجنح والصور الخلابة والثقافة العميقة والمعاناة الصادقة.. كل هذه الأشياء صهرها الشاعر في بوتقة موهبته الثرة والثرية.. وتجربته العميقة _في الشعر وفي الحياة_فكان لنا هذا الفن الغني العظيم الذي هو «أعظم فرح يمنحه الإنسان لنفسه «على حد قول أحد الفلاسفة.
أشهد أنني عشت ومت وعشت مع الوحيد في البياض.. وتعذبت مع القصيدة _حتى أمسكت ببعض خيوطها وخطوطها_لكنه العذاب اللذيذ الجميل.. إذا صح التعبير.
«رأيت المعري يطرد نقاده من قصيدته» أرجو ألا يطردني محمود درويش من قصيدته فلست ناقدا بل أنا قارئ ذمي أتسكع على قارعة الكلام. أستجدي من الشعر كشحاذ بعضا من خبز الروح وظلال الكلام.
محمود درويش من جديد في «الجدارية» وبكل جدارة يقبض على جمرة الشعر، ويجترح معجزته الخالدة.