الحرب ضد عنترة العبسي
زكريا محمد زكريا محمد

الحرب ضد عنترة العبسي

تذكرون الشطر الأول من مطلع معلقة عنترة؟:

هل غادر الشعراء من متردمِ                 أم هل عرفت الدار بعد توهم؟

إنه شطر صاعق. ففي خمس كلمات- هي الشطر الأول من المطلع- قال شيئا عميقا. شيئا أعطانا إحساسا بسيطرة الزمن، وثقل التكرار. ولا بد أن قرونا من الشعر قد سبقت الشاعر حتى يستطيع أن ينطق بهذه المقالة. ولا بد أن شعراء لا يحصون كانوا يثقلون ذاكرته بأقوالهم التي طالت كل شيء كي يتقدم بهذا السؤال ا

الاستنكاري. أعني: لا يمكن لهذا الشطر أن يكون وليد ثقافة شعرية عمرها مائة عام فقط، مثلا.

الزمن هو جوهر هذا الشطر. إنه يجر الزمن خلفه، ونحن نشعر بثقل هذه الجرة.

ثمة جمل شعرية كثيرة شهيرة في الشعر الجاهلي، لكن لا أحد منها يشعرك بثقل الزمن كهذا الشطر. ثمة، بالطبع، بيت زهير بن أبي سلمى:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش                      ثمانين حولا- لا أبا لك- يسأم

لكن هذا البيت يشعرك بثقل الزمن الشخصي، زمن الشاعر. أما شطر عنترة فيشعرك بعبء زمن ثقافة بكاملها.

وثمة بيت امرئ القيس عن ابن خدام أو حذام:

عوجا على الطلل المحيل لعلنا                           نبكي الديار كما بكى ابن خدام

لكن الزمن المكرر هنا هو زمن موضوع واحد: بكاء الأطلال. أما زمن شطر عنترة فهو زمن تكرار كل المواضيع. كل ما قيل مكرر ومعاد. أو كما يقول سفر الجامعة في العهد القديم: لا جديد تحت الشمس: «ما كان فهو ما يكون، والذي صنع فهو الذي يصنع فليس تحت الشمس جديد. إن وجد شيء يقال عنه: انظر، هذا جديد. فهو منذ زمان كان في الدهور التي كانت قبلنا» (سفر الجامعة، 1: 9-10).

والغريب أن عنترة قال الجملة القاتلة ولم يفصل. ألقى جملة كأنها القدر ذاته، ثم انتقل إلى موضوع آخر، هو موضوع الأطلال. لقد وضعها قبل الطلل وقبل بكائه. فتكرارها أعمق من الأطلال ومن زمنها. تكرار يحوي الأطلال والأعمار، وكل شيء.

على كل حال حال، تروى الكلمة الأخيرة في البيت على وجهين: (مُتّرَدّم) أو (مُتَرّنّم). والمتردم: هو الموضع الذي يرقع من الثوب، أما المترنم فالشيء الذي يترنم به ويغنى. لكن المعنى العام في الحالين يظل هو هو، وهو ما يوضحه لنا الزوزني:

«هل ترك الشعراء موضعا مسترقعا إلا وقد رقعوه وأصلحوه؟ واستفهامه استفهام يتضمن معنى الإنكار، أي لم يترك الشعراء شيئا يصاغ فيه شعر إلا وقد صاغوه فيه. وتحرير المعنى: لم يترك الأول للآخر شيئا، أي سبقني من الشعراء قوم لم يتركوا لي مسترقعا أرقعه ومستصلحا أصلحه. وإن حملته على الوجه الثاني كان المعنى: أنهم لم يتركوا شيئا إلا رجعوا نغماتهم بإنشاء الشعر وإنشاده في وصفه ورصفه».

إذن، ففي خمس كلمات قال عنترة شيئا صاعقا بالنسبة للشعراء: هل هناك ما يمكن أن نزيده على من سبقونا؟ لقد قيل كل شيء، ولم نعد نستطيع أن نزيد أو نضيف. إنه حكم قاس، يدعو إلى اليأس والاختناق.

ويبدو لي، في بعض اللحظات، أن الشعر العربي كله كان، في ما بعد، صراعا مع هذا الشطر، ومحاولة لإبطال الحكم الذي يحمله. أي محاولة لإثبات أنه يمكن قول شيء، وأن القدماء لم يستنزفوا كل شيء. فهل يمكن أن نقرأ بيت أبي العلاء من دون أن نتذكر شطر عنترة؟:

وإني وإن كنت الأخير زمانه                   لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل

هنا، ينقض أبو العلاء حكم عنترة، ويعلن أن المتأخر في الزمن سيعلو على الأوائل، وأنه سيأتي بما هو أخطر مما أتوا به. أي يعلن أن هناك جديدا تحت الشمس. أن ثمة أشجارا في الغابة لم تكتشف بعد. أن ثمة دروبا لم تخترق، ولم تسر فيها قدم من قبل.

بل لعلني أقول أن حرب كل شاعر هي حرب مع عنترة وشطره. أي حرب لإثبات أنه يمكن أن يضيف وأن يأتي بجديد.