نزوح من الذاكرة
من الواضح جداً أنه لا ينتمي أبداً إلى ألوان المكان.. لم تهدأ عيناه وهي توزع نظرات مرتابة في جميع الاتجاهات: «انتبه..خلي عيونك مفتحة». تداعت تلك الكلمات الحازمة لـ»المعلم» في باله.. والوجوه العابسة وصراخ الأطفال النزق يزيد من ضيق صدره..
نظر إلى ساعته وتنهد للمرة الألف، لم يعد قادراً على انتظار بديله، قد أمضى نهاره واقفاً عند باب هذه المدرسة وهو بالتأكيد ليس مستعداً لجولة عقيمة أخرى من البحث عن البنزين لسيارته كما حدث البارحة، هز رأسه وعاد بالذكريات إلى ثلاث سنين مضت، إلى نصيحة بدت مفيدة في تلك الأيام، «اشتري تكسي.. كل العالم عم تشتغل شغلتين وتلاتة..بعدين بتفيدك بالشغل»، هكذا غمزه صديقه عصام ناصحاً وبالنصيحة قد عمل، لكن ذكرى هذه النصيحة اليوم تطلق تلقائياً شتيمة مكبوتة.
عاود النظر إلى ساعته من جديد «تأخر باسم.. أراد المغادرة حالاً، لم يعد قادراً على تحمل هذا المزيج الفوضوي من الأصوات، هذه هي المدرسة الثالثة اليوم، لك منين طلعتلنا قصة النازحين هي..؟»، نفث الروح الأخيرة من سيجارته ورماها على الأرض بعصبية، طالع الوجوه من جديد لكن لا جديد، نساء افترشن الباحات، رجال بعيون باهتة يلتهمون سجائرهم بعد أن يأسوا من تهدئة الأطفال وألعابهم الصاخبة التي لا تعير اهتماما لما حدث أو قد يحدث «خلص..رح روح»، لكنه سرعان ما أعاد التفكير: «رح يجي باسم وما رح يشوفني هون»، لا يريد أن يرتد عليه ذلك في صباح اليوم التالي، هو يعرف باسم جيداً، سيكون التقرير على مكتب «المعلم» غداً، وسيبرز الوصف بجانب اسمه باللون الأحمر تماما كالتالي: «لم يلتزم بموقعه»، تعب وقوف النهار سيضيع ، بل ربما سيُحرم من نشاطه هذا خارج القسم، لن يستطيع العودة إلى مزاولة الأعمال المكتبية من جديد، ينهيها عادة في ساعة ليستغرق في التفكير حتى تذوب أنفاسه ضمن تلك الجدران الأربعة.
تذكر مقابلته الأخيرة مع «المعلم»، شرح له بخشوع لم يرد العمل خارجاً، اختنقت الحروف عند ذكر اسم «مجد»، مضت شهور لكن الغصة لا تزول، «ابني سيدي.. بتعرف انو استشهد بدرعا من كم شهر سيدي.. بدي اطلع برا.. أحسن.. بختنق جوا سيدي»،وها هو الآن على قدميه منذ الصباح،»هيك أحسن» واسى نفسه وأشعل سيجارة أخرى، وهو يتفحص تلك الشاحنة الصاعدة بصخب من أسفل الشارع، «صهريج المي.. وأخيراً.. يا مساكين»، تذكر حارته عندما رأى تلك الجموع العطشى تقترب بسرعة من الصهريج وتتعالى الأصوات، تذكر صهريج «أبو حسين» والازدحام الخانق عند مروره اليومي في الحارة، تذكر رئيس البلدية «الكلب»، لم يتردد أبو حسين في فضح تحالفه مع ذلك الكلب دون خجل «الله يديمو لرئيس البلدية.. بلاه كنا متنا من الجوع.. «قالها بصراحة غامزاً بوقاحة، «والله نحنا المساكين» تمتم وتنهد.
امتدت يد صغيرة جداً من العدم لتمسك بطرف بنطاله، تناثرت خواطره جميعها لوهلة ثم نظر للأسفل بسرعة، وإذا بطفل أسمر لا يتجاوز السنتين من العمر يحبو قريباً من قدميه، تجمد للحظات ثم التفت يريد أن يبحث عن أمه أو أبيه، أحس بشعور غريب حبس الأنفاس في صدره، لم يكن قادراً عن إزاحة نظره عن هذا الطفل، عاود الصغير وشده من أسفل بنطاله من جديد، نطق الصبي بحروف غير مفهومة ثم أخذ يحبو من جديد حتى توقف أمامه تماما ثم مد يده الصغيرة المتسخة حاملاً قطعة صغيرة من الجبن وغمغم يريد أن يعطيها لذلك الرجل الذي مازال متسمراً أمامه، لم يدر ما أصابه، لكن ذلك الشعور بالخدر تلاشى عندما اندفعت إلى مخيلته صور كثيرة من ماضى بعيد تجمعت في لحظة جنونية، تذكر خطوات «مجد» الأولى، تذكر الرحلات العائلية على النبع في قريته عندما كان يقشر ويقطعه إلى قطع صغيرة لصغيره ليعود الصغير ليحمل القطعة نفسها إلى أبيه ويغمغم بكلمات غير مفهومة، ويضحك، تذكر يومه الأول في المدرسة، تذكر عندما ارتفعت حرارة الرضيع «مجد» وازرقّ لونه فركض كالمجنون حافياً إلى المستوصف القريب، تذكر بكاء «أم مجد»، تذكر فقدانها الوعي عندما رأت صورة ابنها على نعشه.. نسي في اللحظة نفسها باسم و»المعلم» والصهريج ورئيس البلدية وسيارته الفارغة من الوقود.. وانحنى يلتقط الصبي ويرفعه حتى وضعه أمام وجهه متأملاً خدوده الحمراء وابتسامته الناعمة ويده التي مازالت تريد إعطاءه تلك القطعة من الجبن.. ذرف دمعة وحيدة في تلك اللحظة.. وفي لحيته دفن ابتسامة لن يعلم بها أحد غيره..