في الأول من نيسان: «أكيتو» عيد الطبيعة والآلهة والإنسان
في الأول من نيسان من كل عام، يحتفل الآشوريون بعيد أكيتو – رأس السنة الآشورية الجديدة (6762 عام آشوري) امتداداً لتقاليد ما بين النهرين، حيث يقيم الآشوريون احتفالاتٍ شعبيةً بين أحضان الطبيعة بحسب الطقوس والتقاليد الآشورية القديمة، مثل تقديم القرابين للآلهة والهدايا للملوك وإقامة شعائر احتفالات زواج جماعي، فيعقدون المهرجانات الفنية والتراثية، من غناء ودبكات (رقص شعبي) وغيرها من التقاليد التي تعبِّر عن حضارة وتراث أصيل.
كان للأسطورة دور هام وأساسي في حياة الشعوب القديمة، ولاسيما في بلاد ما بين النهرين، حيث شكلت الأسطورةُ المساحةَ الفكرية والإيديولوجية التي جرت عليها أحداثُ «الدراما الإلهية» عند الآشوريين القدماء: فقد وجدوا في ظواهر الطبيعة تجسيدًا للقوانين الإلهية الخالدة، كما أنهم أعطوها بُعداً وظيفيّاً من خلال طَبْع هذه الظواهر بغايات ومقاصد كان الإنسان يطمح إليها ورَبْطِها بالمناسبات والممارسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع. وتنطوي الأساطيرعلى الكثير من الإرهاصات الفكرية والفلسفية الهامة.وتعكس التصور الآشوري للتاريخ، حيث دفعتِ ضرورات تنظيم الأحداث والظواهر الطبيعية والاجتماعية ذات التأثير المباشر على الحياة والنشاط الزراعي وضبطها، الإنسانَ إلى وضع أول تقويم سنوي (روزنامه). وقد شكَّل ذلك التقويم مرحلةَ انعطاف كبيرة وهامة في حياة المجتمعات القديمة؛ إذ كان بداية تكوين ذاكرة الإنسان التاريخية. فالتقويم الآشوري ليس مجرد تأريخ لوقائع وحوادث تحدث في المجتمع أو تدوين لظواهر طبيعية، بل هو كذلك إنجاز علمي هام حقَّقه إنسان مابين النهرين في مجال العلوم الطبيعية وعلم الفلك.
وتشكل ملحمة الخلق والتكوين البابلية إينوما إيليش محور الميثولوجيا الآشورية، التي تمحورت حول ثلاثة محاور أساسية هي: التكوين (الخلق) والآلهة والإنسان. وتؤكد هذه الأسطورة التي كُتِبَتْ باللغة الأكادية في أواسط القرن الثاني عشر ق.م -وكان «تمثيلها» من الطقوس الأساسية لاحتفالات رأس السنة الآشورية (الأكادية)- على أن تكوين الإنسان بقرار إلهي جاء في إطار تنظيم العالم الجديد الذي نشأ مع اندحار قوى العماء والفوضى والشر. وهي تفصح عن المضامين الدينية والميتافيزيقية لطقوس احتفالات الآشوريين قديمًا في نيسان بعيد أكيتو.
وتحدثنا هذه الأسطورة، عن احتفالات نيسان وكيف كانت تتسنم ذروتها مع تتويج مردوخ ملكًا -إلهًا على الكون- هذا الإله الذي عبده الآشوريون في شخص الإله أشور، إلههم الذي برز كـ«مخلِّص» عظيم للإنسان.
وتروي ملحمة گلگامش البابلية، التي تعود إلى العام2650 ق.م وتُعتبَر من أقدم نماذج الأدب الملحمي في تاريخ الحضارات، كيف انطلق گلگامش باحثاًعن سرِّ الخلود الذي استأثرت به الآلهةُ منذ اللحظات الأولى للخليقة وحرمتِ الإنسانَ منه.
واتخذت جدليةُ الموت والانبعاث عند البابليين والآشوريين في بلاد ما بين النهرين أشكالاً إنسانية وحياتية واقعية. وقد عبَّرت معظم الأساطير والملاحم القديمة في سومر وبابل وآشور عن هذه الجدلية من خلال موت الآلهة وانبعاثها: سبات الطبيعة في فصل الشتاء وانبعاثها في فصل الربيع من جديد؛ وكذلك من خلال الصراع بين الخير والشر، وعلاقات الحب والتزاوج بين الآلهة، كما في أسطورة تموز وعشتار.
و تركت طقوس عيد أكيتو، بصماتها عميقًا على معظم الفكر الديني والميثولوجي للشرق القديم. وجاء التقويم الآشوري تعبيرًا عن ضوابط الفعل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والديني (الإيديولوجي) في المجتمع الآشوري قديمًا. ومن هنا تبرز أهمية الاحتفال به الذي يعتبر بحق احتفال بالطبيعة والآلهة والإنسان معاً.
وقديمًا لخص الأول من نيسان ، بما يحمله من دلالات – دينية، فلسفية، علمية، قصة الخلق والتكوين، وهو ينطوي اليوم، بما يحمله من قيم ودلالات حضارية و خصوصية تاريخية واجتماعية، عيدًا يؤكد اعتزاز الانسان بانتمائه إلى تاريخه والتطلع إلى مستقبل زاهر مشرق لجميع شعوب المنطقة.