بين قوسين: الداعية الرســـمي..
يوشك الداعية المعتمد رسمياً أن يبدأ بخطابه التعبوي اليومي، فتختفي مؤقتاً أصوات روبي وهيفاء وهبي وقمر وتامر حسني ومن صدح صدحهم من الأثير، ويجبر سائقو السرافيس وأصحاب الدكاكين والمطاعم والأفران والمكاتب العقارية وبعض موظفي الدوائر الحكومية... معظم أفراد المجتمع على الإنصات للإذاعة الرسمية ليتلقفوا التوجيهات والإرشادات التوعوية على الموجة القصيرة..
تبدأ الحلقة، فيأخذ الداعية بعد البسملة والحمدلة، بالتنديد بالسافرات غير المجلببات، متهماً إياهن بالكفر والضلال والصفاقة والخروج عن قيم المجتمع والاعتداء على آداب الطريق، ومطالباً المؤمنين بمقاطعتهن ومنع النساء التقيات من مخالطتهن أو السلام عليهن، ولا ينسى أن يتوعدهنّ بعذاب أليم في الدنيا والآخرة..
الموظفة «غير المحجبة» العائدة من عملها، نصف النائمة في السرفيس المكتظ، تصحو هلعة على نظرات تزدريها، ويباغتها إحساس أن ثلاثة عشر راكباً سينقضون عليها الآن ويرمونها خارجاً.. نظيرتها الواقفة تنتظر دورها في دكان اللحام بباب سريجة، ينقبض صدرها، وتشعر فجأة أن أحد الزبائن قد تأخذه غيرة الدين فيمد يده إلى ساطور الجزارة ويقطع رأسها.. المرأة العجوز التي تشتري الخضار من ساحة القصور، يعتريها قلق بالغ على ابنتها اليافعة الواقفة بقربها بتنورتها الواصلة لحدود الركبة، من متحمس متأثّر أو من مستلبة غاضبة..
تنتهي الحلقة.. يعود مغنو الرداءة لامتلاك الأثير مرة أخرى، على الموجة ذاتها والمنابر الشعبية ذاتها، ويعود المجتمع إلى سيرته السابقة، باهتاً مترقباً ورمادياً، ولا ينتبه أحد، بمن في ذلك الرقيب بأنواعه وصفاته المتعددة، للتراكم الذي حصل.
يوم جديد، وحلقة جديدة.. يتوجه الإرشاد هذه المرة إلى الذين يخالطون أناساً من غير دينهم وسنّتهم، فيقرّعهم ويبهدلهم ويحذّرهم من مغبة ذلك على اليقين والأخلاق والطباع والعادات وسلوك النساء، وأثر كل ذلك نهايةً على العاقبة.. فيشعر عدة ملايين من المواطنين بالإهانة والألم، وأنهم أصبحوا «آخرين خطرين».
تنتهي الحلقة.. ولا شيء من التراكم المتزايد يبدو على السطح، فمغنو الـ«عَو عَو» والـ«واوا» والـ«عتبة قزاز (بنسختها المحدثة)» عادوا للغناء بقوة، وأبناء المجتمع عادوا لدوّاماتهم اليومية، لكن، وعلى غير انتباه من أحد، ليسوا كمواطنين وإخوة في بلد واحد منسجم في تنوعه ولهم طموحاتهم في العدالة والتحرر، وإنما كأفراد عبابيد متوجّسين كلٌّ له دينه وملّته ومذهبه..
وتتوالى الحلقات كما تتوالى الأغاني، ولا يترك الإرشاد صغيرة ولا كبيرة إلا ويطلق أحكاماً مطلقة فيها، أحكاماً غير قابلة للنقاش أو الجدل.. اليوم، يقنع الداعية جميع العباد المستضعفين أن حالات بؤسهم وفقرهم وعريهم وقلة دخلهم وتردي معيشتهم والتغافل عن حقوقهم، سببها الأول ذنوبهم التي اقترفوها والمعاصي التي ارتكبوها، وغداً، سيؤكد للمرأة العاملة العائدة من الورشة أو من المعمل أو من المؤسسة حاملة طفلها وبعض حاجيات بيتها، لتطبخ وتغسل وتكوي وتساعد أولادها في واجباتهم المدرسية...، أنها لا تساوي شيئاً مقارنة بسيدات الماضي الفاضلات، أنها نكرة ومقصرة ولا تراعي قوامة الرجال.. وبعد غد سيعظ الناس، وخاصة الفقراء، في قيمة الصبر وعلاقته بالإيمان والجنة، مذكّراً بالصابرين المبشَّرين.. وهكذا..
يتغلغل الإرشاد في النفوس المنهكة، النفوس التي لا تجد قشّة تتمسك بها لتخرج من مستنقع الفقر واليأس والقمع، مترصداً لحظة مؤاتية للانقضاض على عدوه المختلق الوهمي!. وتسلب الأغاني الداعرة بإيقاعاتها السريعة ونسائها العاريات وسياراتها وقصورها وعوالمها الافتراضية الماجنة عقول الشباب، العقول المحيَّدة المدفونة تحت الدوافع الطبيعية المكبوتة الجاهزة لأي انحراف، ويتعاظم التراكم الأعمى في المسارين اللذين يشكلان ظاهرة اجتماعية واحدة ذات وجهين، وتتمزق القيم الحقيقية، ويتشرذم المجتمع، وتئن الوحدة الوطنية، وتندعس البلاد تحت عجلات قطار اللبرلة التجويعي الماضي نحو مساحات جديدة، بينما ما تزال الأغلال تكبّل معظم القوى التي تمكن المراهنة عليها في مواجهة كل هذا الجنون، رغم أن الخطر بات وشيكاً.. وشيكاً جداً.