«مرافئ الإحساس»: قصص تنزلق إلى هاوية السوالف
يظهر في مجموعة «مرافئ الإحساس» (دار إنانا) للقاصة مريم عبارة، وهي المجموعة الثانية بعد «رواسب نجومية»، أسلوب الكتابة وكأنما القاصة لم تطلع على الكتابة الحديثة للقصة مطلقاً، فقصصها عادية ومباشرة تهتم بالمضمون فقط على حساب الفنية، تحاول وتهدف إلى إيصال الفكرة إلى القارئ دون حساب للأدب والفن والجمال.
فنحن نقرأ قصصها وكأننا نقرأ قصصاً كتبت أوائل الثلاثينيات في القرن الماضي، وهي للأسف لم تستفد من النقد الذي وجه لمجموعتها الأولى، لذا أتت وكأنها سوالف وحكايات، وثمة أكثر من تسع قصص هي خواطر لا صلة لها بالقصة مطلقاً، وهي القصص التالية: (على هامش الحياة، بسمات بلد، بائس، سخرية المزاد، بقايا رماد، حياة المشاهير، نوافذ حرارية، عير مطمئن على سعادته، بوح الإحساس)، عدا عادية ومباشرية القصص فأنها تقليدية بكل معنى الكلمة، ولا أقول هنا إنها كلاسيكية، لأن الكلاسيكيين من القاصين كانت عندهم لغة رصينة وبلاغية.
تخلو القصص أيضاً من التشويق الذي هو عنصر هام من عناصر القصة فمن مجموع إحدى وثلاثين قصة وهو عدد القصص فيها، هناك فقط ست قصص مشوقة، هي: تخمير لوقت الحاجة، عقد اللؤلؤ، إعادة هيكل، مفترق طرق، مشكاة، بقايا الرماد..
في المجموعة قصتان كتبتا بالأسلوب الشاعري هما: سادية اللون، بقايا الرماد، وفيهما أربع قصص فيها بعض الشاعرية هما: عقد اللؤلؤ، إعادة هيكل، مفترق طرق، سخرية المزاد، أي أن قصص المجموعة تخلو تقريباً من الأسلوب الشاعري الذي هو من أهم الأساليب في كتابة القصة القصيرة الحديثة، إذ أنه يزيد في صورها وخيالاتها، ويعطيها جماليات أحلى وأكمل.
جمل قصص المجموعة كلها تقريباً جمل متوسطة الطول، وتندر فيها الجمل القصيرة المكثفة التي تحمل الانفعالات والحركة والسير بسرعة، وتحريك الأجواء والطقوس، لذا فهي باردة بطيئة تمشي الهويني، وتفتقر إلى التجاذب والشد والالتحام... ولكنها أفضل من أن تكون جملاً طويلة مديدة ملأى بالإنشاء والتكرارات.
أما عن حجم القصص في المجموعة فقد تراوح بين الصفحتين إلى الثلاث صفحات إلا فيما ندر، إذ إن هناك قصة واحدة بلغ عدد صفحاتها أربع صفحات في قصة عزف منفرد.. هناك إحدى عشرة قصة في حجم صفحتين أي أنها تميل إلى القصر ولكن ليس إلى التكثيف، مع أني لاحظت أن بعض تلك القصص يمكن إطالتها دون أن ينال ذلك من فنيتها...
تفتقد قصص المجموعة إلى الاستباقات الزمنية وإلى الفلاش باكات وإلى الحوارات الداخلية، ولو كتبت القاصة بعض قصصها بهذه الأساليب الفنية لرفعتها قليلاً وطعمتها ببعض التحديث، فزمن القصص يجري على نمط واحد فهي تخلو من الزمن الاستباقي والزمن المطلق، وتخلو من التفريق بين الأزمنة، وأنساقها متتابعة مقيدة.
أفعال القصص في المجموعة كلها مضارعة خلا قصة واحدة كتبت بأسلوب الفعل الماضي، وهذا خفف من حدة التقييد وهو يحسب للقاصة، فالمضارع يعني المشاركة من الكاتب بالحدث ورؤيته الآنية له، ومتابعته.. والمضارعة زمنياً تعني ـ كما نعلم ـ الحاضر وبعض المستقبل والآتي... أما القصة التي كتبت بأسلوب الفعل الماضي فهي قصة: بسمات بلد، المهم أن ابتعاد الكاتبة عن الكتابة بأسلوب الفعل الماضي أبعدها عن الوقوع كلياً في مطب التقليدية.
أما عن الضمائر في المجموعة، فقد كانت الأكثرية المطلقة فيها هي ضمائر الغائب، فقد برز هذا الضمير في سبع وعشرين قصة من إحدى وثلاثين، وقد كتبت قصة واحد بأسلوب الضمير المتكلم وثلاث قصص بأسلوب الضمير المخاطب.. والكتابة بأسلوب الضمير الماضي أسلوب تقليدي لا يتفق مع حركية القصة القصيرة وأزمانها المتعددة وأشكال تلك الأزمان وتنوعاتها، فالماضي زمن انتهى ولا عودة له إلا للعبرة وأخذ الحجة والبرهان. فهو ذكرى قد ترتسم في الذاكرة أو لا ترتسم.. وقد تأخذ حيزاً في الوجدان الذاتي للكاتب.
البدايات والنهايات في القصة القصيرة لها دلالاتها وتفاعلاتها. فالبداية لها وقعها وجاذبيتها، ولها إشارتها، وإيماءاتها، والبداية تعني أول الاكتشافات في درب قصة ما، وإمكانية تعرف هذا الدرب بأسئلة فنية كثيرة، فكيف هي بدايات قصص المجموعة التي بين أيدينا «مرافئ الإحساس»؟
خلال قراءة المجموعة تبين لنا أن بداياتها تراوحت بين البدايات الجيدة الكاشفة، وعدد قصصها ثماني عشرة قصة، والبدايات العادية وعددها ثلاث عشرة قصة، ولو كانت بدايات القاصة كلها جيدة لكان أفضل.
أما عن النهايات في المجموعة، فقد انسجمت مع الاتجاه الفني التقليدي لها، والتي تكون في العادة نهايات مغلقة، وهي تعني أنها لا تدع للقارئ الفرصة ليفكر في النهاية، بل تقدمها له دون تعب فهو لا يفكر ولا يتأمل ولمَ؟ مع أنه في الكتابات الحديثة أكثر الكتاب يلجؤون للكتابة بأسلوب النهايات المفتوحة، التي تتيح للقارئ التفكير والتأمل كي يعطي النهاية التي يريد. وفي المجموعة ست قصص نهاياتها مفتوحة، وهي: زلة قدم، أمنيات قيد التحقيق، سخرية المزار، بقايا الرماد، شاخصة لكل محطة، جذور سطحية.
العناوين في المجموعة هي عناوين عادية، بل وعادية جداً، سوى عنوان واحد هو: (سادية اللون)، وهناك عناوين قصص ليس للكاتبة، بل هي عناوين مطروقة سابقاً مثل: عقد اللؤلؤ، على هامش الحياة، صورة جماعية، مفترق طرق.
العناوين في أساليب الكتابة الحديثة لها أهميتها الكبيرة فهي تشارك في جماليات القصة وفنيتها، إذ أن العنوان يجب أن يكون إيحائياً ليساعد في رفع سويتها وفتح الحواجز أمامها.