رسالة من الدّاخل إلى الخارج
لا أعلم من أنت حقاً، وما هو اسمك، كما لن أسألك عن انتمائك السياسي.. ربما تكون غادرت البلاد منذ ساعات فقط أو سنين طوال، ربما كنت معتقلاً سياسياً أضناك طول الاعتقال وغياب الحريات.
أو كنت قد قررت السفر لانعدام شعورك بالأمان، ربما سافرت هرباً من الخدمة العسكرية لأنك لم ترد أن تغدو طرفاً في حرب داخل البلاد، أو ببساطة لم ترد أن تموت! ربما تكون قد سافرت خوفاً على مشاريعك الاستثمارية وأموالك من انخفاض سعر الليرة السورية، ربما غادرت لتحمي حلماً بدراسة أو عمل، أو أنك اخترت القيام بجولة سياحية في هذا الوقت تحديداً!
لا أملك الوقت الآن للخوض في المزيد من التفاصيل للتكهن بظروف سفرك، لكن ما يهمني حقاً الآن - في هـذه اللحظـة وأنـا أكتـب هذه الرسالـة - أنني هنا، في الداخل، وأنت هناك في مكان ما.
لا تلمني على هذه الطريقة في رؤية الأمور، هو تقسيمٌ جغرافي لا غير، فرضه وجود الحدود وحقيبة السفر .. لا أنكر أبداً أنه في لحظات كثيرة شعرت أنّي في «الخارج»، منفصلةً عما يجري من حولي، غريبةً داخل بلاد كانت دائماً موطني. وأنت في المقابل ربما حاولت أحياناً بكل ما استطعت من قوة أن تكون في «الداخل»، شحذت حواسك كلها لتشعر كما أشعر أنا، حاولت التوحد مع ألم الأمهات أو خوف الأطفال، تسمرت أمام شاشة التلفاز، تابعت بأصبعك على الخريطة لتحدد مكان كل قرية أو منطقة أو مجزرة جديدة.
لا أنكر أيضاً المرات الكثيرة التي اجتاحتني فيها رغبةٌ بالهرب من هنا، أو الحسد الذي شعرت به نحوك كونك تعيش خارج هذا الكابوس.
ربما ترغب بمعرفة بعض التفاصيل عن التغيير الذي حدث في غيابك: في دمشق استبدلت خيم الجنود - التي نصبت على عجل- على مفارق الطرق العامة بغرف ذات جدران متينة وتلونت الحواجز الاسمنتية بعد أن كانت رمادية، مؤذنة بأن الظرف الطارئ أصبح دائماً. يشعرك ذلك بالاختناق حتى لا تكاد تميّز ساحة أو شارع بقي على حاله. غالباً ما يكون الازدحام قاتلاً إلّا في حالات عدم توافر المازوت، يتناقل الناس في الشارع قصص الشهداء والأخبار عن آخر الاشتباكات، يتناقلون الإشاعات عن ارتفاع الأسعار أو زيادة ساعات التقنين . ما زال المساء يضج بصوت آذان المغرب كما سابقاً، وما زلت تستطيع التمتع ببعض المتع الصغيرة كشرب كأس من السحلب في الشارع، أو التجوّل في الحميدية المزدحمة، لتظن للحظات ألا شيء تغير .. إلا أن الحقيقة أن كل شيء قد تغير .. للحياة اليوم طعم ولون ورائحة مختلفة ..
لم أقصد من هذه الرسالة أن ألومك على سفرك أو أصدر أحكاماً بحقك، ولم أرد كذلك أن أراكم لديك المزيد من مشاعر الذنب – إن كنت تختبر شعوراً مشابهاً – ربما أردت أن أطلب منك فقط ألا تضع نفسك مكاني، ألا تتكلم باسمي، وبالرغم من شعوري أحياناً بأنك تبذل جهداً كي تحس بما أحس، إلا أن ذلك لا يغير من حقيقة الأمر شيئاً : أنا هنا وأنت هناك ..
اعلم أن أي تصريح تعلنه أو قرار تتخذه – إن كنت من أصحاب القرار- يحدد مسار حياتي في الوقت الذي تستمر فيه حياتك، وتذهب إلى عملك صباحاً، تخوض نقاشاً سياسياً محتدماً أو تشاهد فيلم سينما في المساء، تتجمد حياتي هنا، كما في الأمس واليوم الذي سبقه.. أصطدم كل لحظة بشتى أنواع التفاصيل التافهة والعابرة التي لا تراها في نشرة الأخبار أو على الفيسبوك.. تلك التفاصيل الصغيرة هي التي تجعلنا مختلفين أنا وأنت: أنا الذي في الداخل وأنت الذي هناك..