سعدي يوسف في حال من الاغتراب الدائم
دعت مجلة «بانيبال» الى أمسية مع الشاعر سعدي يوسف في «موزاييك روم» التابعة لمؤسّسة عبدالمحسن قطان، لندن، لمناسبة صدور أعماله الكاملة عن دار الجمل. تليت خلالها قصائد له بالعربية والإنكليزية، وحاوره عمر قطان حول شعره وحياته.
بدا الشاعر العراقي الساخر أصغر سناً من أعوامه الثمانين. وضع قرطاً في أذنه اليسرى، وتدلّت خريطة بلاده من سلسلة ذهب حول عنقه. عاد مرتين فقط الى العراق بعدما غادره للمرة الأولى في 1957. شبّه الزيارتين بالمرأتين الأولى والثانية في حياة الرجل. الأولى عسل، والثانية سكّر، ولو عاد ثالثة لكانت زيارته كالمرأة الثالثة، حفّارة قبور. لا يريد ميتة عنيفة في بلاده، وهذا سبب امتناعه عن العودة مجدّداً. كرّر القول إن الطفولة هي كنز الشعر الذهبي، ولئن أمضى طفولة سعيدة، فإن العراق لم يتغيّر منذ طفولته. كان تحدّث مراراً في المقابلات عن بهاء الألوان، الجداول، عرائش العنب، النخيل العالي وشطّ العرب حيث نشأ في البقيع، البصرة. بهاء لا يمكن محوه، وكنز خفيّ حافظ على سرّيته، وحرص على ألا يقول كل شيء عنه ليعود إليه ويغرف منه متى شاء.
عن منفاه الطويل قال إنه لا يتعلّق بالأرض فقط. المسألة فلسفية، والفنان في حال اغتراب مستمر، وبالتالي منفى دائم، وهو عاش خارج بلاده أكثر مما عاش فيها. كان قال في مقابلة إنه لم يتخلّص من الحنين إلا حين اعتبره عدواً يطارده ويطرده. عندها فقط عاد إنساناً سويّاً يسير بحرية مستقيم الظهر في البلدان والقارات. تحدّث بمرح عن خلفية قصيدة قبل قراءتها. قصد باريس في نهاية الثمانينات، وتفاءل حين قيل له إن الحياة هناك تبدأ في السماء السابعة. قدّمت له سيدة بيتها في شارع هنري الرابع الفخم «الذي لا يستطيع حتى (الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا) ميتران أن يتحمّل كلفة العيش فيه». وجد مبنى عالياً لا مصعد فيه، وبدأ الرحلة الى الشقة على الدرج. حين بلغ الدرجة 140 دخل غرفة تبيّن أنها للخدم، ولم يفهم لماذا كانت ملأى بالمسامير. كتب قصيدة عنها ورد فيها أن المسامير تسقط من شعره حين يسرّحه، وتخرج من جيبه عندما يبحث عن نقود، وأن الفتاة التي أحبّها تركته بسبب المسامير. في الثمانينات أيضاً عمل مستشاراً للرئيس اليمني الجنوبي السابق علي ناصر محمد في وقت حقّق اليمن «نهضة مهمة» في التربية والمسرح والفن التشكيلي، وقدّم فرص المساواة للنساء. شكّلت هؤلاء نصف العاملين في دار النشر التي عمل فيها، وحين ارتكب مخالفة سير يوماً كانت سعادته بالغة برؤية امرأة في مقعد القاضي.
يقرأ اليوم أونغاريتي وشعراء الجامعات الأميركية. لا يستطيع القول إن هناك شعراً فرنسياً بل لعب بالكلمات. لا شعر في إيطاليا حيث سبعون في المئة من الشعب فاشيّون. في شكل عام لم يعد الأوروبيّون يكتبون الشعر لأن الحياة تطوّرت في شكل غريب عجيب نفى الحاجة الى الشعر. نجد الوضع نفسه في العالم العربي: «المشهد ليس مغرياً. كل هذه المصائب لدينا ولا أحد يكتب الشعر. الخوف يمنع كتابة الشعر حتى في البلدان الحرّة نسبيّاً مثل لبنان. ربما كان علينا البحث عن الشعر في رومانيا وفييتنام ولاوس». افتخر بأعماله الكاملة: «ثلاثة آلاف وخمسمئة صفحة تعادل عصرين أو ثلاثة من الشعر العربي». مع ذلك لم يكتب كل ما شاء كتابته نظراً الى حدود اللغة. «كانت كل كتابتي محاولة مستمرّة للوصول الى تخوم الفن. لم أدخله بعد، وكلما اقتربت يزيد ابتعادي. كيف نعبّر عن الرائحة والإحساس بالمطر؟ لا المطر بل الإحساس به؟ نحتاج الى بحث مستمر، والسر يكمن في اللغة واختلال الرأس»!
تغطي الأعمال الكاملة (سبعة مجلّدات) أكثر من نصف قرن عاش الشاعر خلالها في العراق والكويت ولبنان والجزائر واليمن وأوروبا. ولد في البصرة في 1934، وترجم الى الإنكليزية والإيطالية والألمانية، ونال جوائز عدة عربية وأوروبية وكندية. قال عنه الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش إنه لا يشبه أي شاعر عربي آخر، وإن تمرّده على تعالي اللغة الشعرية أسّس بلاغة جديدة ظاهرها الزهد وباطنها البحث عن الجوهر. هو عضو في الهيئة الاستشارية لمجلة «بن» الدولية وهيئة تحرير مجلة «بانيبال» الصادرة بالإنكليزية في إنكلترا عن الأدب العربي التي ستخصّه بعددها الواحد والخمسين الذي سيصدر في الخريف المقبل.
المصدر: الحياة