أيّها المنفي في صمت الحقول
منذ عدّة سنوات حينما كان التنقل ما يزال سهلاً وممكناً بين المحافظات والقرى السورية، وكان لنا ترف الانشغال بكيفية قضاء عطلة الأسبوع، أو الهرب من روتين العمل، ظهر في سورية تجمعات من شكلٍ جديد: فرق للمشي ضمّت حينها شريحةً واسعة من الأطباء والموظفين والمعلمين وطلّاب الجامعات من مختلف المحافظات السورية، سيّرت أفرادها الرغبةُ في اكتشاف البلاد والمناطق الأثريّة أو التوحّد مع الطبيعة، والتعرّف على أشخاصٍ جدد
كان المسير مغامرة مفتعلة، مخططة، تضيفُ مزيداً من الخيال إلى حياة بدت شديدة الواقعية، وخطّ سيرٍ لا يعرف وجهةً واحدة: من الشمال إلى الجنوب، من الجبال إلى الأنهار والبحر والسهل.. أردنا أن نتحدى أجسادنا للوصول إلى أقصى جهدٍ عضلي، فقط كي نعرف أن تلك القوى موجودة، لم يفسدها التمدد على الأرائك أو الجلوس الطويل وراء المكتب. كنّا نأكل البطاطا المسلوقة والخضار والحساء، هرباً من قائمة المأكولات اليومية الرتيبة التي مللناها، ونتجوّل حاملين كاميرات التصوير كي نوثّق حياة أردنا رسمها أمام عدسات الكاميرا، وبطولات افتراضية بتسلقنا الجبال، ومناطق قصيّة نحاكي من خلالها شعور المكتشفين الأوائل، نتباهى أمام الآخرين ممن لم يختبروا تجربةً مماثلة بأننا بتنا نعرف الجغرافية السورية، وأننا زرنا الرصافة وقلعة ابن وردان ونهر الفرات والمدن المنسيّة، في الوقت الذي اكتفوا هم بالقراءة عنها في الكتب أو مشاهدة صورها في التلفاز.
حينما أستعيد اليوم تلك الرحلات أتساءل كم كانت حقيقية تلك المعرفة والاكتشاف..؟ أعجز عن تذكّر تفاصيل الأماكن أو الطبيعة، تمرّ في رأسي كما لو أنني أقلب سريعاً ألبوم صور دون التّمعن في أيٍ منها. لكن ما أتذكره حقاً بدلاً من حجارة الرصافة والمدن المنسيّة، هم أولئك المنسيّون..
كانوا ينظرون لنا نحن القادمين من البعيد - بحقائب ظهرنا وقبّعاتنا الملونة- كما لو أننا من بلد آخر، يتلعثمون على عجلٍ ما يتقنونه من كلمات اللغة الإنكليزية. بدا من المستحيل إقناعهم بأننا ننتمي إلى البلاد ذاتها، كما كان من المستحيل أن نقنع أنفسنا بأننا ننتمي حقاً للبلاد ذاتها، وأن لنا بطاقة الهوية الوطنية نفسها!
كنّا نعود أحياناً محملين بسلامٍ مرسلٍ إلى أقرباء وضاعوا في المدينة الكبيرة، أوقصصٍ عن كرمهم وحسن ضيافتهم.. إلا أننا وحتى في تلك اللحظات كنّا ننظر لهم بعين الغريب، السائح، المراقب، الذي عبر حياتهم مصادفةً وأكمل مسيره نحو وجهةٍ أخرى.
أتذكّر مرة إحدى الضيع على ضفاف الفرات، عندما قادتني بعض الفتيات بين البيوت الطينية، أدخلنني إلى منزلهن وأخذن يحدثنني عن رغبتهن بإكمال الدراسة رغم معارضة الأهل، ولا أعلم الآن ما الحماقات التي تفوّهت بها عن أهمية التعليم، لكن أتذكر كيف كنت في نظرهن سفيرة حياة يردن اختبارها، وأنا بدوري كنت أتأمل الوجوه المتعبة وأسنانهن التي صبغتها مياه النهر، أبتسم بنوعٍ من التكلف والخجل كما لو أنني أدرك بقرارة نفسي الهوة التي تفصلني عنهن بالرغم من أننا من العمر نفسه.
كانت الحياة هناك أقسى من أن تصدّق بأنها حقيقية، والفقر أشد ألماً من تلك الصورة الشاعرية التي رسمت لبساطة الحياة في الريف.. إلا أننا حتى حينها لم نرد أن نصدّق ما نراه، حبسنا تلك الوجوه في إطار صورة للريف القصي وتركناهم هناك.
كثيراً ما أحاول اليوم شحذ خيالي لتصوّر ماذا يجري هناك؟ لعل تلك القرى قد «حُررت» أو «طُهرت» أو ظلّت منسية مهملة كما كانت، قد يكون سكانها شهداءً الآن...لاجئين... أو منفيين، كما كانوا منذ سنوات مضت.
أمّا نحن، أعضاء فريق المشي، تغيرنا بدورنا كما حال البلاد كلها، وانكسر الثالوث المحرّم: الدين والسياسة والجنس، قسّمتنا الآراء السياسية، اعُتقل البعض وهاجر آخرون هدمت بيوتهم، بينما يحضر آخرون المؤتمرات بصفتهم ممثلين عن الشعب السوري. اليوم تخلينا نهائياً عن رياضة المشي، لكننا مازلنا نرتكب الخطأ ذاته باعتقادنا أننا نعرف جغرافيا البلاد وشعبها ونستطيع تمثيل كل شرائح المجتمع!
* العنوان مقتبس من قصيدة «لمن تغنّي؟!» للشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي.