«دروب المجد».. رائعة من «كوبريك»
يرجعنا المخرج «ستانلي كوبريك»، المناهض للحروب إلى إحدى معارك الحرب العالمية الأولى بين فرنسا وألمانيا، بنظرته الأكثر قرباً لروح الجندي المدفوع باسم الوطنية، إلى معارك تقرها جنرالات وقادة على جلسات مترفة من الطعام والكونياك، جسّد رؤيته الدونية للقيادات العسكرية الفاسدة التي تأخذ من الجنود ضحية لأهدافها الشخصية وطموحاتها في الترقية والمناصب
النص مقتبس عن رواية واقعية حقيقية باسم «دروب المجد» تحمل ذكرى المرحلة المهينة في تاريخ فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى وضعفها أمام ألمانيا، واصفاً الأجواء الموبوءة داخل الجيش الفرنسي في ذلك الوقت وقراراتها الطائشة، فكان فيلماً مؤلماً للفرنسيين ولذلك منع في فرنسا حتى عام 1970.
يطلب رئيس هيئة الأركان الفرنسية من أحد الجنرالات أن يقوم بالهجوم على تل «أنت هيل» الاستراتيجي، والذي يتحصن فيه الجيش الألماني، يدرك الجنرال استحالة هذه المهمة، ولكنه يصر على الموافقة بعد أن عقد صفقة قذرة لترقيته، تنتقل بعدها الكاميرا إلى خنادق المعارك، وتصبح الصورة أقرب إلى أبطال الحروب، وحكاياتهم وأفكارهم عن الموت الأسهل والأفضل، أمام قبح الموت المحتم. تظهر شخصية العقيد «داكس» الممثل العظيم (كيرك دوغلاس)، الذي يوافق على خوض هذه المعركة لكي لا يبتعد عن جنوده، مشاهد المعركة قوية جداً، نلاحظ فيها براعة المخرج في استخدام المؤثرات الصوتية والكاميرا تتحرك إلى جانبهم ضمن الوحل والقذائف والجثث. وطبعاً لا يجب أن ننسى ميزة سينما «ستانلي كوبريك» في المشاهد الطويلة المستمرة دون مونتاج وأجملها مشهد سير الجنرال في الخندق، كان المخرج «كوبريك» لاعب شطرنج ماهر، لذا كان من السهل عليه تصوير تقدم البيادق والضباط في المعركة، الشطرنج هي حرب أيضاً، وفيها يجب التقدم على الرقعة مع حماية الملك والملكة والضباط جيداً، بينما أرخص الأهداف هم الجنود... وهذا ما أراد أن يعبر عنه المخرج في هذا الفيلم، ونجح فيه.
تنتهي المعركة بفشل الجنود في التقدم، بسبب قساوة ضرب المدفعية الألمانية واستحالة هذا التقدم، يقرر الجنرال أن يقصف الخندق بجنوده الذين لم يستطيعوا الخروج من الخنادق جراء كثافة النيران ومن أجل إجبارهم على الخروج عن طريق وضعهم أمام احتمالين إما الموت بالمدافع الفرنسية في خنادقهم أو الموت في أرض المعركة بالنيران الألمانية للتغطية على الهزيمة التي لحقت به، فيرفض ضباط المدفعية هذا القرار. هنا تظهر ملامح الخبث على شخصية هذا الجنرال حيث يقرر إقامة محكمة عسكرية لإعدام جنود نجوا من المعركة بحجة أنهم ضعفاء، ويقول في جلسة طعام مترفة:«لقد أصدر لهم أمراً بالهجوم كان واجبهم أن ينفذوا الأمر، ليس الأمر متروكاً لهم لتقدير ما هو مستحيل وما هو ممكن، إذا كان الأمر مستحيلاً فالدليل الوحيد على ذلك كان ينبغي أن يكون جثتهم في هذه الخنادق».
يجسد مشهد المحاكمة الكثير من التميز في سينما المخرج «ستانلي كوبريك»، فتظهر رقعة الشطرنج المحببة لديه، وجاذبية الصدامات ومتعتها في السيناريو. وتكون ذروة الفيلم، بعد التسلسل المذهل للأحداث، ومن خلال كلام قليل يُظهر تأثر المخرج بالأفلام الصامتة، تتفكك حبكة الفيلم، ولكن يبقى النفاق والشر..
يظهر المشهد الأخير من الفيلم وكأنه خارج طينة الفيلم تماماً، حيث تشعر وكأنك في فيلم أخر، يستخدم «ستانلي كوبريك» أغنية كما فعل العديد غيره من المخرجين، إذ غالباً ما كانت تستخدم الأغاني في الدراما للخروج من الحالة المأساوية، ولكن هنا يضاعف المخرج عمق الأسى في مشهد الختام، فتظهر رهينة ألمانية على المسرح في حانة يسكر فيها الجنود الفرنسيون، تبدأ الفتاة في الغناء ويعلو الصفير وضرب الكؤوس على الطاولات، ولكن غناءها الحزين يقلب وجوه الجنود الفرحة إلى عيون تذرف الدموع أمام أول جمال يقابلونه ويشعرون به بعد أيام الموت الطويلة.. يعلن الفيلم رأي «ستانلي كوبريك» الصريح، لم تكن دروب مجد بل كانت دروب الذل..!!.
دروب المجد فيلم إنتاج عام 1957