غدي فرنسيس تكتب «مائة يوم في سورية»
مع كلماتها تحولت الأرقام اليومية إلى أسماء ووجوه. وبين السطر والآخر تُثقل النفس بغصة تلك العاشقة الملتاعة ،تشكو «غدي فرنسيس» هجر حبيبها الدمشقي فارس قاسيون الصامت. أعطته أيامها ونفثات طوال من سجائرها علها تقترب أكثر من قلبه، طالعت وجوهه في كل مكان، سمراء متعبة كانت أم بيضاء مكتنزة، رأته في صوت أم كلثوم، في الدكاكين القديمة،
وفي كلمات الصبي بشار بائع العلكة، وتنقلت معه من مقاهي دمشق إلى زواريب حمص إلى حواجز اللاذقية لتعود من جديد إلى محطتها في مكاتب رجال الأمن فتراه هناك أيضاً. آلمها الصمت والضجيج في علاقتهما وسكن الحقد والغضب قلبها على البوابة الحدودية عندما حان موعد الفراق صارخة في الوجوه ضاربة الأبواب والطاولات: «كيف ستمنعني عن بلدي؟»، لكن قبل الفراق ستسرد لنا في كتابها «قلمي وألمي.. مئة يوم في سوريا» فصول ذاك العشق وسنركب معها الحافلة من دمشق إلى اللاذقية وسنزور حماة وحلب والسويداء.. ستحدثنا عن دمشق كما تتكلم مراهقة عن حبها الأول وستكشف أسئلتها الدائمة لسائقي التكسي وطلاب الجامعات وشباب المقاهي وأصحاب الدكاكين وبياعي العلكة. وجه حبيبها المتألم لتصبح اليوميات السورية صفحات من يومياتها. شربت أنخاب الثورات العربية وكتبت بحماسة عن النصر على بن علي ومبارك، عادت لمساءلة ظاهرة الأخوان في العالم العربي عمالة متسلقي الثورات، فتوقفت برهة ليبدأ التغريد خارج السرب قبل ان تتم عاماً مهنياً كاملاً كصحفية، ولتبدأ إعادة النظر بكل ما تراه يستشري من أفكار عن الحال العربية الجديدة ورموزها ودوافعها، فقادها القلب قبل العقل إلى جرح الشام، دمشق الهوية التي أضاعتها بيروت كما تردد بحسرة دائماً ،وانطلقت في مشوار الأسئلة، وسرحت في ألوان الشوارع السورية تسخر من الأسود والأبيض الذي تعود الجميع على رؤيته وتشير بألم إلى قوائم العار والشرف، وتنتقد بقسوة الأقلام المأجورة يقودها شغف وعاطفة عميقة تعود الصحفي في معرض توصيفه للحالة السورية على إخفائها كي يستطيع أن ينتشل الحقيقة من أمواج المشاعر.. ذلك الشغف الذي أعاد صياغة بوصلتها وجعلها متطرفة في عشقها ذاك، متحيزة إلى السوريين في المقاهي والشوارع الدكاكين الذين لا يسمعهم أحد ولايعجبهم لا التصفيق الأعمى ولا أزيز الرصاص لتصيغ قانونها الأول بلغتها السياسية البيروتية الوقحة كما وصفتها: «أكره الجميع وأحب سوريا».. فأحبها ذلك العاشق المتخيل لأنه كما قالت رأى وطناً خلف عينيها وأحبته لأنها رأت جبلاً على صدره.ستحدثنا بلا مواربة عن الجمر الطائفي في اللاذقية، ستضع إصبعها على جراح حماة المفتوحة، عن العداوة بين الأخوة في حوران، عما يتوجس منه الفلسطيني الآن وغداً، عما يريده مثقفو الأزمة ومتثاقفوها، عن «المفرقعات الاقتصادية» التي خربطت مقاييس الخطأ والصواب وجعلت من الحراك السوري ثورة الريف والمحرومين في الأرض، عن مصطلحات كبيرة كإعادة توزيع الثورة والعدالة الاجتماعية والنهضة الزراعية الصناعية ببساطة كلمات الفلاح والعامل والموظف للدرجة التي تصبح فيها قادراً على الاحساس متى تخنقه الحسرة ليتوقف عن الكلام.. سنجلس معها في المقاهي الشامية لنرى انقسام الطاولة الواحدة في الآراء وتوحدها في القلق اليومي وسنسمع ما يقوله شباب اللاذقية عندما ترمي قيود الطائفية الموروثة أثقالها على كلماتهم،سنلتقي بالمعلمة من جبلة والفلاح في حماة، المحامي الماركسي والمهندس القومي، الإخواني المنفتح وشباب زواريب حمص المتعصبين، الشيخ والقس وبائع «السودا النية».. لنعرف عما يتحرق يومياً للصراخ به.. عن الحزب القائد والجبهة الوطنية وما بينهما.. عن المعارضة السورية مالها وماعليها.. عن المعنى الحقيقي لكلمة «حرية».. عن أزمة الحدود والتهريب.. حتى عن المناجاة اليومية بين قاسيون الشامخ والـ»فور سيزنز» المتسلق على قدميه، المستفز بنفحته الخليجية لماضي الجبل العريق، الصارخ بوقاحة: «اقتلعني إن استطعت!..»، عن فراشات العشوائيات على وجنة دمشق، عن «سورية العارية في زمن الأقنعة»....
تلك اللبنانية السورية الهوى، تحملت النفي وصم الآذان من الجميع، عاندت شرطة الكلمات في الصحف ونظرات الاتهام وساعات الانتظار في المكاتب والمخافر وسيارات الأمن كل هذا لكي تخرج سوريا منها فلم تخرج وظلت في قلبها حتى بعد أن أجبرت على فراق حبيبها،كي تكون النموذج عن القلم والألم السوري، كي تجد بحق مايريح الضمير في «العصفورية السورية»، لتبقى رائحة القهوة المرة وصباحية فيروز وكلمات الوجوه السمراء المتعبة الصادقة ذكريات لاتمحى فتثير هذا السؤال في نفسي:»مالذي فعلته انت طوال تلك الفترة الماضية؟