المقاومة وثقافة الشعار الفلسطيني «1 من 2»
في يومٍ شتوي من عام 2004، وخلال البت بقضية جدار الفصل العنصري في محاكمة لاهاي، انطلقت من قرية «أبو ديس» الملاصقة للقدس المحتلة مظاهرة احتجاجية، وأثناء المظاهرة توجهت فتاة في الثانية عشرة من عمرها إلى جدار الفصل العنصري، وكتبت عليه بالانكليزية «أطفال ضد الجدار» فالتف حولها خمسة مصورين أجانب ليوثقوا ما كتبته.
قدمت هذه الطفلة للصحافيين مادة إعلامية دسمة، بعد أن جعلت الجدار وسيلة حاولت من خلالها إيصال رسالتها إلى العالم، والتعبير عن عدالة قضية الشعب الفلسطيني، وكفاحه من أجل الحرية، والذي اختزل بمقولات وشعارات سياسية تعرض الهّم الاجتماعي والسياسي والآمال الفلسطينية، وأفرغتها القيادات الفلسطينية المحلية، عبر الدعوات والبيانات والمنشوراتوالعرائض، التي ساعدت على صياغة الحكاية الثورية الفلسطينية، ضمن توثيق يومي وثقافي وتاريخي، وتوصيف التجربة في إطارها الإنساني والنضالي.
ومع غياب الإعلام الرسمي للمجتمع الفلسطيني، ومحدودية الإمكانيات المتاحة، كان بروز دور الشعارات التي لعبت دور صحافة الحائط، وشكلت الصوت الحقيقي للانتفاضة وناشطيها، والأفكار والمواقف السياسية للفصائل المشاركة فيها، فكما أن الانتفاضة الفلسطينية شملت غالبية الجمهور الفلسطيني، بمختلف انتماءاتهم السياسية والعقائدية، كانت الشعارات هي الوجهالبارز لتواجد تلك القوى والفصائل بشكل فعلي على الأرض، فتنافست تلك القوى على إبراز دورها الحقيقي في الانتفاضة، من خلال الشعارات التي كانت تترك أثراً لدى المتلقي، مثلا «فتح مرت من هنا».. «وحماس في كل مكان»، لشد الانتباه وشحذ الأبصار نحو هذا الفصيل أو ذاك، وتوحيد الشعار حيث لا يمكن أن تنجح عملية التوحيد دون تميز واستقلالية.
فكان الشعار بالنسبة لناشطي الانتفاضة يمثل هوية، سواء أكانت الهوية فصائلية أو عقائدية، المراد منها المزيد من الاعتزاز، وتحولت المدن والمخيمات الفلسطينية، إلى غابة من الشعارات و الملصقات أو حتى لوحات فنية، وأصبح اختيار المناسب لكتابة الشعار لعبة ذكية يتقنها شبان الانتفاضة، فالشعارات التي تخص العملاء وسلطات الاحتلال كانت تكتب في أماكنحقيرة، وأما الشعارات التي تخص القادة الفلسطينيين والعمل المقاوم، كانت تكتب في أماكن عالية كنوع من التكريم.
أما المدن فكانت تلعب الدور القيادي في المجتمع الفلسطيني، وتملي إلى حد كبير الشعارات على القرى والمخيمات المحيطة بها، لكن لا يخفى على أي مراقب البصمة والأثر الذي تتركه شعارات القرى، حتى في الصياغة الفنية للشعار، والحدة البارزة بالذات في نبرة العشائر في القرى، كونها في الأصل قد أثرت على الأطر التنظيمية للفصائل الفلسطينية في الانتفاضة، حتىلوحظ أن الشعارات التي كانت تطلق في الضفة الغربية أقل حدة من تلك التي كانت تطلق في قطاع غزة، ولا يعني ذلك وجود اختلاف كبير في المحتوى، لأن التنظيمات التي تكتب في الضفة هي ذاتها في القطاع، كما أن الاتجاه الاجتماعي السياسي للفلسطينيين متشابه رغم اختلاف المناطق وإن الفروق هي في التفاصيل والحدة دون المبادئ الأساسية والأهداف.
ومن الطبيعي أن يعبر الشعار عن الوعي السياسي لناشطي الانتفاضة، وأن يكون كاتب الشعار، حريصاً على أن لا يتناقض مع المجتمع الذي يوجه له الرسالة، وينطلق من أرضية مشتركة مع هذا المجتمع ومع التوجهات السائدة، ويراعي الرغبة الجماهيرية في التوحد خاصة في الكفاح المسلح ومقاومة الاحتلال، ولم تتكلم الشعارات عن السلام مع الاحتلال، إلا بوصفهأمراً منكراً مرفوضاً، فعالجت الشعارات الرؤى للواقع في فلسطين، وطرحت تصور كاتبيها لمستقبل العمل المقاوم الفلسطيني.