«الحاج مراد».. رواية تولستوي المنسية

«الحاج مراد».. رواية تولستوي المنسية

الحاج مراد من أكابر الزعماء الداغستانيين الذين عملوا تحت أمرة القائد الأسطوري الشيخ شامل، القائد الميداني الذي حارب جيوش القيصر الروسي نقولا الأول  خمسة وعشرين عاماً

وعندما طالت الحرب وتعب الناس جاء بعضهم إلى الشيخ شامل يحاول إقناعه بالاستسلام، فما كان من هذا إلا  أن  أمر بجلد كل من يتحدث عن الاستسلام مئة جلدة في الساحة العامة أمام الناس. عندئذ لجأ طالبو الاستسلام إلى أم شامل، وهم يعرفون مكانتها عند ابنها، لتقنعه بالاستسلام. فقال لها: ألم يبلغك الأمر الذي صدر في حق من يطلب الاستسلام؟  فأجابته: نعم  يا بني، ولكني أمك  يا شامل. فرد عليها: أنت داغستانية  قبل أن تكوني أم الشيخ شامل ولذا سيسري عليك ما يسري على أهل داغستان. وأمر أن تحمل أمه إلى الساحة العامة ويسدل عليها غطاء وتجلد. وقف الناس ذاهلين أمام ما يجري، وبينهم وقف الشيخ شامل أيضاً. ولما جلدها الجلاد ثلاث جلدات قال له الشيخ: حسبك  يا هذا أنا سأتحمل عن أمي السبع وتسعين جلدة الباقية، وبدأ يتجرد من ثيابه، وراح مريدوه وقواده يحاولون ثنيه عن عزمه، قائلين له: أنت الشيخ شامل زعيم داغستان تجلد في الساحة العامة أمام الناس؟  بهذه الروح تربى مريدو الشيخ شامل ومنهم الحاج مراد، الذي تعرف إليه تولستوي مصادفة  حين كان  ضابطاً روسياً في القفقاس.

الحاج مراد رواية قصيرة من روايات تولستوي، يمسك فيها ناصية القول الفني المدهش، الذي يجمع على جودته خلق كثير، يطل علينا من قمة التعبير الأدبي الساحر، وليس بيننا وبينه سوى مسافة الاستجابة لهذا السحر. استقى عبقري الأدب الروسي من يومياته،  المسودة الأولى من رواية الحاج مراد وكان عنوانها (التوت البري)، وهي شجيرة  ما تزال تنبت في ضواحي مدينة إدلب في الشمال السوري، وتسمى (سنية برية) ويؤكل ثمرها، وقد أعجب تولستوي  بهذا الشجيرة  المقاومة  التي تنجو حتى بعد دهسها بعجلات العربة،  وعبث الإنسان وجوره. واختارها رمزاً ليصنع منه إطاراً عاماً لروايته عن الحاج مراد، فيقول في مقدمة الرواية: «كنت أسير في الحقول متجهاً نحو منزلي.  في عز الصيف. وكان الموسم خصيباً والحصاد وفيراً. ثمة في هذا الوقت من السنة مجموعة رائعة من الأزهار تزين الحقول هنا وهناك، منها القرنفل الأحمر والأبيض والوردي، والاقحوان والجلبان البري وكعب الغزال المزخرف وأجراس البنفسج الحزين...

قطفت باقة كبيرة من تلك الأزهار واتجهت عائداً إلى البيت، ولاحظت في خندق قرب الطريق، شجيرة توت بري في عز عنفوانها، فكرت في اقتطاف غصن منها وضمه إلى باقتي فنزلت إلى الخندق.. حاولت قطفها، فوجدت الأمر صعباً، إذ أخذ الجذع يحز كف  يدي من كل جانب، وبعد نضال عنيد نجحت في قطع غصن، لم يكن بعد قطعه بتلك الطلاوة والجمال كما كان على أمه. وأسفت لأنني أتلفت بحماقتي تلك الشجيرة، التي قاومت عدواني بحيوية وعنفوان؛ ودافعت في سبيل حياتها مستبسلة.. كان طريقي يمر في حقل حديث الفلاحة ذي تربة غنية سوداء. وكنت أفكر  بقسوة الإنسان حين لمحت شيئاً مكوماً على  الجانب الأيمن من طريقي، وصلت إليه وجدته حطاماً لشجيرة توت بري أخرى. كانت الشجيرة بثلاثة أغصان، أحدها مكسور وما تبقى منه ظل قائماً عارياً وكأنه جرموذ ذراع مبتورة،  أما الآخران فقد أزهرا.. وكانت الزهرتان بالأساس حمراوين ولكنهما أصبحتا الآن سوداوين. وكانت أحد الساقين مكسوراً يتدلى للأسفل، تعلقت بطرفه زهرة معفرة بالغبار والطين. أما الأخير فقد ظل شامخاً رغم تلطخه بالتراب. لاشك أن الشجيرة دهستهاعجلة إحدى العربات، فاستقامت ثانية محطمة لكن ظلت واقفة على قائمتها، لقد انبعج جزء من جسمها-إن صح التعبير-  وبتر أحد أذرعتها، لكنها صمدت ورفضت الاستسلام  للإنسان الذي دأب على تحطيم إخوته الأحياء من حوله. حينئذ تذكرت  حكاية داغستانية  قديمة شهدت بعض فصولها وسمعت أجزاء أخرى من شهود عيان وتخيلت الباقي وإليكم الرواية كما تشكلت في ذاكرتي».                              

يدخل تولستوي  بهذه العتبة الجميلة إلى أحداث روايته مؤكداً النكهة الأخلاقية  التي  ميزت تجربته  الفنية وأمدتها بقوة فلسفية هائلة. والرواية تتمتع بجاذبية خاصة تأسر القارئ رغم إهمالها من قبل القائمين على نشر الأعمال الكاملة  لهذا الأديب العظيم، لأنها مسرودة بأناقة تؤهلها للانتماء إلى ذلك الصنف من الأدب العالمي الرفيع المقام.

تُرجمت رواية الحاج مراد إلى العربية أول مرة في سلسلة روايات مجلة الهلال المصرية في خمسينيات  القرن العشرين، بقلم الأستاذ مجد الدين حفني ناصف. ثم كانت الترجمة الأخرى بقلم المحامي  السوري سهيل  أيوب ويذكر أن الأديبة السورية المعروفة ألفت الإدلبي تناولت كفاح أهل داغستان ضد الاحتلال الروسي في روايتها «حكاية جدي». وكانت روايتها هي الثانية التي تناولت هذه الفترة بعد رواية تولستوي الحاج مراد. تحدث تولستوي أثناء كتابة الحاج مراد عن الحاجة إلى التعبير بالفن عن  الجوانب المتغيرة والمتناقضة عند البشر، إذا تغير السياق بدا الشخص ذاته بصورة جديدة. فقال: «ما أحسن أن يتمكن المرء من كتابة عمل فني يعبر بوضوح عن طبيعة الإنسان المتحولة، عن واقعة أنه شيطان وملاك في آن معاً، حكيم وأحمق». ولهذا قدم تولستوي  بطله الحاج مراد مقنعاً بأقنعة كثيرة مختلفة.  حيث نلمح جاذبية المشاعر العاطفية البشرية التي يتحرك من خلالها الحاج مراد،  والتي يسميها تولستوي مشاعر شديدة البساطة يومية ومتاحة للجميع.