المدرعة بوتمكين وسحر ايزنستاين
ولد سيرجي ايزنستاين في مدينة بريكا في لاتفيا. درس الهندسة، ولكن مع قيام الثورة البلشفية في روسيا ترك دراسة الهندسة وانضم إلى الجيش الأحمر.
كان يتقن اللغات الروسية والألمانية والإنكليزية والفرنسية. أحب الرسم وعمل رساماً بإحدى الصحف قبل انضمامه للجيش، وبعد ترك الخدمة في الجيش، أسس فرقة مسرحية خارجاً عن مفهوم الواقعية التقليدية الذي كان دارجاً آنذاك.
تأثر ايزنستاين بأفكار عصر النهضة، ودرس أعمال ليوناردو دافنشي محاولاً دمج أحاسيس وروح القرن السادس عشر في إيطاليا Qattrocento.
إلى أن دخل مجال السينما، ودرس تأثيرها العميق على المشاهد، وما تمتلكه من قوة سيكولوجية وفكرية تجعل منها رائدة الفنون الجماهيرية في المجتمع. حيث أن بناء الفيلم ليس مجرد تسجيل للحياة الواقعية فقط... بل له دلالات وتأثيرات جمالية وفكرية متلاحمة بشكل متناسق وعميق، ليخدم القيم والضرورات الاجتماعية والسياسية لأي مجتمع يحاول النهوض وإعادة النظر بمكانته التاريخية والوجودية.
استطاع السينمائيون مع بداية الثورة البلشفية امتلاك الحرية الكاملة للتعبير عن مشاكل وحياة العمال والفلاحين والسعي لتسليط الأضواء عليها.
وفي خضم كل ما مرت به روسيا في السابق على يد القياصرة ،وبعض الشرائح الاجتماعية المستفيدة من حكمهم، ولدت الثورة البلشفية، وولدت معها العقول الفنية والمبدعة، أمثال: بودفكين وايزنستاين ومكسيم جورجي والموسيقار شوستاكوفيتش... وغيرهم.
ومع ولادة هذا التيار الوطني الواعي من المفكرين والفنانين ولد فيلم «المدرعة بوتمكين» الفيلم الأكثر شهرة في تاريخ السينما العالمية، والأكثر منعاً لعرضه في الدول الرأسمالية آنذاك، نتيجة لحسه الثوري العالي والصادق الذي يحاول الإعلاء من قيم الثورة المجردة، وحق الإنسان في الدفاع عن حقوقه الإنسانية، فضلاً عن تمجيده الكبير لثورة أكتوبر العظمى، الثورة الشيوعية البلشفية.
وضربت ألمانيا الرقم القياسي في فحص الفيلم، وشكلت العديد من اللجان لدراسته وتحليله، وحتى حين عرض الفيلم في تشرين الأول من عام 1926، مُنع الشباب من حضور العرض بحجة أن له تأثيراً مسيئاً على عقولهم. بعدها عرض الفيلم في باريس في 18 تشرين الثاني من عام 1926 في قاعة واحدة، ولعرض واحد، وبتوقيت لا يرتاده رواد السينما عادةً، مما أدى إلى تبني عرضه من قبل جماعة من المفكرين الفرنسيين، وهم جماعة أصدقاء «سبارتكوس»، وقد دفعت هذه الجماعة ثمن حماسها، فقد صدر أمر قضائي عام 1928 بحل الجماعة وحظر نشاطها. ولم يرفع حظر عرض فيلم” المدرعة بوتمكين» في الدول الرأسمالية إلا في عام 1953.
ويبدو أن منع ومصادرة حقوق عرض الفيلم هذا، لأنه يمثل ويقدم للمشاهد فكرة تمرد حصل على ظهر سفينة حربية بظل حكم القيصر وبطش ضباط وقادة السفينة، وسوء معاملتهم لبحارتها المتعبين من العمل المرهق، وإطعامهم الطعام الفاسد واللحم المليء بالديدان، رغم فحص طبيب السفينة للحم وإصابته بالعمى عند رؤية الديدان، وهذا نوع من العمى مفروض عليه من قادة وضباط السفينة، لكل هذا كان من الطبيعي أن يتحد البحارة مع بعضهم البعض للوقوف بوجه الظلم والقمع، والدفاع عن إنسانيتهم وحقهم بالعيش الكريم على متن المدرعة.
كل هذه الأفكار كانت إسقاطات للوضع المعيشي المزري للشعب الروسي تحت بطش وحكم القياصرة وحاشيتهم، ولعلها- أي المدرعة بوتمكين- تمثل النواة والشرارة لإشعال ثورة أكتوبر العظمى على القيصر في عام 1917 وكان روادها العمال والفلاحين الذين ثاروا على ظلم الحكم القيصري بعهد «نيكولاس».
ففيلم «المدرعة بوتمكين» كان يستند إلى الجملة المنسوبة للينين (الثورة هي الحرب الوحيدة والقانونية والشرعية والعادلة والعظيمة بحق.... وفي روسيا أعلنت هذه الحرب وابتدأت).
وبالفعل، ولهذه الروح الثائرة داخل سيرجي ايزنستاين، والتي من خلالها بث روح الثورة في فيلمه وفي نفوس مشاهديه، لا يستطيع أحد إنكار حقيقة أن هذا الفيلم قد أثار داخل نفوس مشاهديه في جميع أنحاء العالم الرغبة المكنونة في الثورة، وقد كان من هؤلاء المشاهدين الكثير من مثقفي أوروبا، الذين سارعوا للانضمام إلى الحزب الشيوعي بعد مشاهدتهم لهذا الفيلم، وهذا يبرر سبب محاربته ومعاداته في العديد من الدول الرأسمالية القامعة والمستغلة للعمال والفلاحين، ومن منا لا ينسى فيلم العبقري شارلي شابلن «الأزمنة الحديثة» بل وكافة أعماله التي قدمها والتي دافع من خلالها عن المظلومين والمهمشين في العالم الرأسمالي.
يقدم فيلم المدرعة بوتمكين منهجاً فريداً تقنياً، وخاصة في مجال المونتاج، حيث يعد ايزنستاين (أبا المونتاج) ومؤسس مونتاج «الاكرلسيون» أو الصدمات، والذي جسده بأحجام لقطاته وتسارعها بل وعمقها أيضاً، وهو المليء بالمشاعر الإنسانية البحتة المطالبة بالعدالة ورفض الظلم، مهما كان ثمن الحق هذا.
وقد جسدها المبدع ايزنستاين من خلال مشهد مذبحة سلالم أوديسا، حينما خرج جميع أهل أوديسا لتحية البحارة الثائرين على ظهر المدرعة التي اتجهت باتجاه الشاطئ، والذين تخلصوا من ضباطهم الظالمين، لينهال عليهم الرصاص فجأة من الخلف نتيجة تلقي الجنود القوزاق أمراً بتفريقهم، وإطلاق الرصاص عليهم... فنرى لقطة لامرأة شابة تضم يديها على صدرها والدم ينزف بغزارة منها، ثم لقطة لعربة بها طفل رضيع تندفع بسرعة فوق درجات السلم باتجاه مصير مجهول!!!
ولعلي لا أستطيع نسيان اليوم الذي شاهدت فيه فيلم «Untouchables» «غير القابلين للمس» للمخرج «بريان دي بالما» والذي يفضح من خلاله أعمال عنف المافيا الإيطالية والمدعومة من المافية اليهودية في أمريكا، والاستعارة من مشهد سقوط العربة على أوديسا، وسقوطها على أدراج محطة القطار، بفيلم بريان دي بالما، وهو من بطولة كيفن كوستنار وروبيرتو دي نيرو. وهذه الاستعارة وما تحتويه واضحة في دلالاتها على مدى التشابه بين بطش حكم القيصر ووحشية المافيا، والتي كانت حليفة وصنيع المجتمع الرأسمالي وبطشه وفساده.
ولعل ثورية سرجي ايزنستاين تبدو واضحة وجليه في أول فيلم روائي طويل قام بتقديمه عام 1925 وهو فيلم «الإضراب»، كما نراه يقدم فيلمه «أكتوبر» عام 1928 والذي يتناول فيه المرحلة الأولى من ثورة 1917 وفيلمه «خط الجنرال» وكذلك فيلم «اليكسندر نيفسكي» عام 1938 و»ايفان الرهيب» عام 1941، وغيره من الأفلام التي كانت تنطلق دوماً من تلك الساحرة– ثورة اكتوبر العظمى– كي تصب منتهية إليها في نهاية الأمر.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1146