وطن من تلال الضوء..
لملمتُ صور ذكرياتي كلّها دفعةً واحدة ًمساء أمس في بقعة ضوءٍ صغيرة جدّاً على جدار غرفة جدّتي المطلّ على فسحة ٍغرب الضّيعة صور فانوسها ضوء سياّرةٍ قادمةٍ من البعيد باتّجاه السّد سدّ الحولة والتي قبل انحرافها باتّجاه الطّريق نحو «تلدو» بقليل ترمي بضوئها على مساحاتٍ حرّةٍ تصل بين البلدتين ضاربةً عرض الحائط كلّ صور العالم المشوّهة عن المنطقتين فاسحةً المجال أمام حلمي... حلم الحقيقة ...حلم الطّفولة العريق في تراب وحجارة ذلك المكان العنيد ..تعالوا معي في رحلتي حزمت كلّ أمتعة حزني وحبّي وشوقي وذكرياتي اليوم توّاقةً للحظات الحبّ الماضية
إنّها ضيعتي فانوسي السّحري جدار غرفة جدّي وجدّتي القديم ونحن نجلس مستندين عليه، التّياّر الكهربائيّ مقطوع ونحن كالعادة نصيّف في ذلك المكان. قريتي تبعد بضعة كيلومترات عن الحولة لكنّها قريبة ٌلدرجة أنّني كنت أعتقد أنّ الشّمس تغرب هناك وهناك فقط خلف السّد حيث يهبّ النّسيم.... على هذا الجدار سقطت كلّ الذّكريات... العنب والتّين والطّيّون وسترة جدّي الشّتويةّ الّتي يرتديها صيفاً شتاءً... مايرد البرد يرد الشوب! هكذا كان يقول...
المشهد الأول:
على باب خزانة الملابس الوحيدة في بيت أهلي في ركن الدين في دمشق كتب أبي: العمل حياة ... عبارة بسيطة سجّل تحتها التاّريخ 15 - 5 - 1982.. إنهّ تاريخ مغادرة العائلة بطقسها السّنوي ّنحو حالة ٍمن التّصييف قد يدركها كلّ من عاش في دمشق تحت ظلال وعبء ورغبة الهجرة من الريف إلى المدينة لحظاتٌ كنّا ننتظرها بفارغ الصّبر لننطلق بملء شغفنا وطفولتنا الحرّة إلى هناك حيث يمكنني أن ألملم بقايا مرور نهر شرارة الجاف صيفاً لأصنع دمية ًمن عودي خشبٍ متصالبين ألبسها قطعة قماش ٍ عالقة ٍعلى صخرة ٍ،ورأسها ربّما يكون غطاء زجاجة وقد أجد بعض الأشياء اللامعة لأزيّنها.
وللوصول إلى ذلك الحلم كان لابدّ من المرور بمحطّات ٍأحبّها الطّريق المؤدّية إلى حمص لافتاتٌ كبيرةٌ على جانبي الطّريق إعلانات قد يذكرها جيلنا المولود في سبعينيات القرن الماضي جيّداً صورة النّحلة العاملة التي تجمع الرّحيق.... وأغنية فيروز سائليني يا شآم تتردّد على مسامعي
حمص مدينة حلاوة الجبن والحلاوة الشوشية.
الكليّة الحربيّة باتّجاه طريق مصياف هنا أبدأ بتعداد أسماء القرى باتّجاه نقطة الانتظار... مفرق الضيعة هناك وعلى يمينه تماماً الطّريق التي توصلنا إلى الحولة... وإلى يساره ضيعتي... نقطة الانتظار تلك والمدعوة بكلّ شوق مفرق الضيعة تحمل بين حجارتها كل ظروف الحبّ والشّوق والانتظار والتعّب والفقر والفرح واللوم ....
المشهد الثاني:
في غرفة المفرق بحجارتها السود أنتظر مع والدي للذّهاب الى الحولة من أجل إجراءات الهويةّ الشّخصيّة ، علينا استقلال حافلة تأتي من حمص باتّجاه الحولة أو أيّة سيّارة خاصّة تمرّ من جوارنا لا مشكلة ....
في الحولة دخلنا البلديةّ هنا سأحصل على الهويةّ حولنا أناس جاؤوا من القرى المجاورة فكّرت لابدّ أنّنا أقرباء... وبقوّة لتكون هوياّتنا الشّخصيّة في نفس المكان هذا جلّ ما خطر في بالي وأنا أضع إبهامي في علبة الحبر ويخاطبني موظف البلديةّ... ابصمي هنا وهنا وهنا وهنا....
بصماتي تلك كانت كنظراتي تماماً كلّ بصمةٍ صورة وكلّ صورةٍ عهد فأنا لديّ مشروع هويةّ! كل ّذلك الزّخم الطّفولي ّوالحلم كما أنا كل أبناء القرى المجاورة ودون أن يدركوا الأمر كان في الحولة في «تلدو» والتي كما أخبرني جدّي جاءت من اسم تل ضو وحُرّفت لاحقاً لتصبح «تلدو» ...ضوء... حلم... ونعود لفانوسي السّحريّ على جدار غرفة جدّي!
المشهد الثالث:
أمّي غريبة في الضّيعة أوهكذا كانوا يقولون وغريبة يعني من ضيعة أخرى بعيدة وهذا الأمر كان من شأنه أن يميّز الأطفال أمثالنا المولودين في هكذا عائلات فالصّيف سيكون مضاعفا ً...لك مكانٌ في ضيعتين وما يعنيني كان الزّيارة التي ستضيف لصيفيتي رونقاً مختلفاً... أتذكّر الرّائحة أستطيع أن أشمّها الآن مزيجاً من دخان السّيّارات والحلوياّت واحتراق الحطب تحت الباذنجان المسلوق من أجل المكدوس... معدتي تؤلمني... لاحقا ًعرفت السّبب.
السّفر دوماً صباحاً كي نكسب الوقت لأنّ الكثير منه سوف يضيع على الطّريق ... الطّريق من مفرق الضّيعة باتّجاه الحولة سأمرّ بحلمي الثّاني من تلدو... الطّريق نحو قرية أمّي يعني دكاّن الأحلام دكّان جدّي ومسكبة البقدونس في الحاكورة خلف المنزل والخمس ليرات خرجية كلّ صباح مع علبة بسكوت وقنينة كازوز ...هل تدركون كلّ ذلك كان المرور إليه من هناك طريق «تلدو» تلدهب كفرلاها والتي تعني في اللّغة القديمة كفر الإله ...
قبل عدّة أسابيعٍ كان أحد أقربائي في الحولة ولمّا سئل باستغراب ٍمن الآخرين عن سبب تواجده هناك في ظلّ الظّروف القائمة قال أنا أشتري السيراميك من هنا أرخص.... بالضّيعة غلّوا عليّ سعر المتر والله هون أرحم!... علمت لاحقا ًأنّ البائع أدخله إلى المحل حفاظاً على سلامته وأمّن وصوله من جديد للمفرق!
كلّ عروس ٍفي قريتي والقرى المجاورة اشترت قماش جهازها من الحولة قبل أن تكون الوجهة إلى حمص، وكلّ منزل لابد فيه فرشة أو ستارة أو كرسي من الحولة. جدار فانوسي السّحريّ مازال في مكانه والطّريق المؤدّية إلى حمص مازالت في مكانها اختلفت لوحات الإعلان فقط ومفرق الضّيعة مازال في مكانه دهنوا حجارته السّود نوعا ًمن التّجديد... والطّريق نحو «تلدو» مازالت مفتوحةً أمام قلبي وعيوني وصورة البائعين الجوالين قادمين من الحولة يبيعون الحصر والإسفنج في ضيعتنا لاتزال هنا في قلبي وأسماء العائلات الصّديقة في «تلدو» لاتزال هنا ...
اليوم يقول لي والدي وقد بات مقيماً بشكل كامل في القرية منذ بضع سنوات هو وأمّي وأختي الصّغرى - التي فقدت عزيزاً غالياً في الأحداث مؤخّراً - : لو جلست على سطح منزلنا في القرية مازال بإمكانك مشاهدة مشارف الحولة، اليوم يمكن أن ترى بعض الدّخان لكنّه ليس كدخان حطب سلق الباذنجان أو صناعة المربّى .
يتّصل بعض الأشخاص اليوم من كلا البلدتين يسألون عن أحوال بعضهم في ظلّ الظّروف الجديدة ويكتفون بالسّؤال لكنّهم كما أنا نحلم أن تعود الصّور... فانوسي السّحري مازال موجوداً ارتفعت بعض الأبنية في وجهه صدّت الضّوء عن الوصول قليلا لكنّني مازلت أراه....