بين المعرفي والأيديولوجي

بين المعرفي والأيديولوجي

في تقسيم مستويات النضال من الاقتصادي إلى السياسي إلى الفكري فالأيديولوجي، قلما يعالج هذا الأخير، وإذا كانت ممارسة هذا المستوى النضالي بشكله المباشر وندرة التنظير له مفسر موضوعياً بتعقيد طبيعته الخاصة من جهة، وبعدم نضج المقدمات المادية لدى القوى الثورية - الأدوات تحديداً - من جهة أخرى، فإن ذلك لا يلغي ضرورة خلق تصور أولي عن آلية تصنيع أدواته، وتحديد موضوعاته معرفياً بالدقة الممكنة استعداداً للتصدي له.

علم الأيديولوجية

هل نستطيع اعتبار الأيديولوجية علماً؟. يتوقف ذلك على مكوناتها، فلكي تكون علماً عليها أن تمتلك موضوعاً يتمتع باستقلال نسبي، إلى جانب وجود منهج خاص بها يفضي عبر الممارسة العلمية (نظرية + عملية) إلى فرضيات وقوانين، ولكي نبحث عن مدى تمتعها بهذه المكونات ينبغي مراعاة أمرين، الأول جانبها الاصطلاحي، بمعنى الموقع الذي تحتله ضمن منظومة التداول الفكري. والثاني جانبها المفاهيمي، أي التحديد الأكثر نضجاً، لها والذي يمكننا من توظيفها والبناء عليها.

في الجانب الاصطلاحي يورد تيري إيغليتيون Terry Eagleton في مؤلّفه أيديولوجيات Ideologies خمسة عشر معنىً مختلفاً للأيديولوجية نذكر منها:

1- عملية إنتاج المعاني، والإشارات، والقيم في الحياة الاجتماعية.

2- جسم من الأفكار الواسمة لمجموعة أو طبقة اجتماعية خاصة.

3- أفكار تساعد على شرعنة سلطة سياسية سائدة.

4- أشكال من الأفكار تحثها المصلحة الاجتماعية..

المشترك بين كل هذه المعاني هو التعاطي مع الأيديولوجية كموضوع، كمنظومة أفكار ومعتقدات تحمل صبغة اليقين والثبات ناتجة بشكل مباشر أو عبر وسيط عن علاقات الإنتاج والتقسيم الطبقي، بشكل عفوي أو بشكل مقصود عبر السلطة. على هذا فالأيديولوجية ليست علماً إنما هي موضوع لعلم، فما هو هذا العلم؟ ما هو العلم القادر على دراسة أصل ومنشأ الأفكار الاجتماعية ضمن منظومة العلوم الاجتماعية؟

إن العلم الاجتماعي الوحيد الذي يستوفي هذه الشروط هو علم الاجتماع الماركسي، لكن تعقيد الظاهرة الأيديولوجية وطبيعتها الخاصة تستوجب لدراستها علم الاجتماع الماركسي منهجاً وقوانين، إلى جانب قوانين وفرضيات علوم أخرى أكثر تخصصاً مثل علم الإشارات والرموز، علم الشعوب، علم النفس العام... وغيرها.

السمات العامة للأيديولوجية وعلاقتها بالمعرفي

إن الأيديولوجية، باعتبارها مجموعة من الآراء والمعتقدات ذات الصبغة اليقينية والتي تبنى على أساسها السلوكيات اليومية والتفصيلية، تحتل من أدمغتنا موقع اللاوعي، وعند كل تفصيل حياتي تعبر وعينا إلى ممارستنا دون رقيب حقيقي، أي دون تأثير واعي، وهنا تكمن خطورتها وقدرتها الهائلة على التأثير في مجرى الأمور، وكذلك تبرز أهمية وضع اليد معرفياً عليها بغية تجييرها بالاتجاه التقدمي، وتكسير جوانبها الرجعية. بهذا تكون نقطة الانطلاق في العلاقة بين المعرفي والأيديولوجي، هي ضرورة حكم المعرفي للأيديولوجي. ضمناً فإن المعرفي لن ينفي الأيديولوجي ليحل محله، وإنما سينفي الأيديولوجية السائدة ليُحلّ محلها الأيديولوجية الجديدة، وهذا ما ذهب إليه هادي العلوي حين قال:"وظيفة الفكر لا تهدف إلى تحرير المجتمع من الأيديولوجية بل تعديلها بأيديولوجية أخرى ملائمة لمقتضى التطور في مرحلة معطاة. لكن العمل الأيديولوجي لا يقوم به المثقف ويؤديه على الوجه المنتج إلا عندما يبلغ المثقف من المعرفة ما يستطيع به تنحية تقنياته لصالح معرفياته. أي أن يخرج هو أولاً من التعلق بأي مسلمات أيديولوجية. ". وعليه فإن  الأيديولوجي والمعرفي يعيشان في وحدة وتناقض هي ذاتها وحدة الحركة والسكون حيث يلعب المعرفي دور المتحرك والمتغير دائماً مقارنةً بالأيديولوجي الثابت نسبياً وهذا السكون النسبي هو الذي تحدث إنجلز عن ضرورته لتمايز الأنواع فالمجتمع بحاجة إلى مستند مستقر نسبياً ليتابع وجوده ويتمايز والمعرفي يتراكم كمياً إلى ذلك الحد الذي يصطدم فيه مع الأيديولوجي فينسفه ويعيد تشكيله أيديولوجيةً جديدة لا تلبث أن تتقادم بالنسبة له. هذا التعميم لا يقتصر على المجتمع الطبقي وإنما يتعداه إلى المجتمع اللاطبقي وهي واحدة من إشكاليات التعاطي مع الأيديولوجية فبالوقوف على أحد تعريفاتها (الوارد في قاموس المصطلحات على موقع أرشيف الماركسية  (www.marxists.org/glossary يقول: (الأيديولوجية هي منظومة من المفاهيم والرؤى التي تسعى إلى إيجاد معنى للعالم في نفس الوقت الذي تمارس فيه تعمية عن المصالح الاجتماعية التي تعبّر عنها ضمنياً).

نستنتج مباشرة أن الأيديولوجية تخص المجتمعات الطبقية فقط لكن وانطلاقاً من ضرورة السكون النسبي للتمايز فإن الأيديولوجية لن تزول بزوال المجتمع الطبقي ما سيزول هو الأيديولوجية غير العلمية أي المستندة إلى الغيبيات وستحل محلها الأيديولوجية العلمية والتي لن تتخلص من عناصرها غير العلمية في يوم وليلة ولكنها عملية طويلة من الصراع المعرفي الأيديولوجي الذي ستحدد مساراته الممارسة العملية وسيختلف الدافع حيث يصبح الوصول إلى الحقيقة العلمية هدفاً جماعياً ما سيقوي المعرفي على حساب الأيديولوجي ولكن لن يزيله..

الأيديولوجية ضمن المجتمع الطبقي

في المجتمع الطبقي، يتجند المعرفي وفقاً للطبقة التي يخدمها، ويحول الأيديولوجية ويحاول السيطرة عليها وعلى حامليها تبعاً لذلك. المعرفي وبحكم تجرده العالي، قادر على العبور من التفاصيل اليومية التي تعيشها طبقة اجتماعية ما، عبر الخاص إلى العام، أي أن المعرفي يُمكّن الوعي من تنظيم اللاوعي والتحكم به، لكن تجسد المعرفي في الأشخاص، ينحصر في فئة ضيقة جداً من الناس، ومع ذلك فهم الأخطر إيجاباً أو سلباً، فهم نواة ما يصطلح على تسميته، السلطة المعرفية. بقية الناس، بعيدون كل البعد عن الإمساك بالمعرفي، وتتمايز المسافات الفاصلة بين المعرفي والأيديولوجي تبعاً لتمايز الطبقات الاجتماعية، الذي يفرض قيماً ثابتة، لجملة هائلة من المتحولات المحددة لحيوات الأشخاص. الطبقة العاملة هي الأكثر قرباً بأيديولوجيتها من المعرفي، ذلك أنها على تماس يومي مع القانون العلمي المتجسد في الآلية الحديثة، والتكنولوجيا المتطورة، إضافة إلى وعيها لزيف النظام الرأسمالي، الذي لا ينوبها منه إلى التمسح بالواجهات أو window shop. يلي الطبقة العاملة الطبقة البرجوازية، التي وإن كانت راضية عن واقعها، فهي تقترب من المعرفي عبر الإمكانيات الهائلة لديها للتعلم وميلها للسيطرة على المراكز التي تُلزمها (في الحقيقة جزء منها) بحمل الأداة المعرفية، إلى جانب المال. والأبعد بما لا يضاهى هي البرجوازية الصغيرة، الطابور الخامس في جيش الرأسمالية، والتي تتمسك بكل الترهات التي تبقي لديها أملاً في الانتقال نحو الأعلى، وفي أسوأ الأحوال بعدم النزول إلى الأسفل.

الأيديولوجية الآن!

الطبقة بذاتها، وفي سياق تحولها إلى طبقة من أجل ذاتها، تُخضع أيديولوجيتها، المكتسبة عفوياً بحكم وضعها التاريخي، تخضعها للفحص والتمحيص، أي تخضعها للمعرفي شيئاً فشيئاً. ومن الأمثلة المهمة على ذلك كتابات الشهيد حسين مروة، الذي توغل عميقاً في دراسة النزعات المادية في الفلسفة العربية-الإسلامية بحثاً عن العناصر التقدمية، وبالتالي بحثاً عن عناصر الارتكاز الأيديولوجية التقدمية، كمدخل لتثبيتها، والبناء عليها في وجه الأيديولوجية البرجوازية والبرجوازية الصغيرة السائدة. في مقدمته الضخمة يقول :"إن ثورية الموقف من قضايا الحاضر، تستلزم الانطلاق من هذا الموقف نفسه لرؤية التراث، أي لمعرفته معرفة ثورية، أي لبناء هذه المعرفة على أساس من أيديولوجية القوى الثورية نفسها في الحاضر." وهو أيضاً ما اشتغل عليه هادي العلوي في العديد من كتاباته، وفي مقدمها من قاموس التراث، ومدارات صوفية. الآن ونحن على عتبة الصعود الجديد، بحاجة أكبر لمتابعة هذه الدراسات، والخلوص إلى نتائج قابلة للتوظيف العملي، وأعتقد في هذا السياق أن ترجمة غرامشي كاملاً إلى العربية تتسم بأهمية حاسمة، فدراسته لأساليب الهيمنة، وحديثه عن القوى المهيمنة والقوى المحركة، واشتغاله في علم الإشارة والرموز، يعطي زخماً ضرورياً لكيفية خلق الأدوات وحتى لكيفية استيعاب موضوعات الصراع الأيديولوجي. يضاف إلى ذلك ضرورة فرز موضوعات الصراع الأيديولوجي، لفتح المجال أمام الاختصاصيين ليدرسوا أشكال الصراع الأيديولوجي كل في اختصاصه. فحين تنشر أهم المجالات العلمية الفيزيائية هذراً من نمط الأكوان المتكافئة، ويتناقش فيها الطلاب و"العلماء"، فتلك إحدى أدوات الصراع، وحين يحل مشاكلنا النفسية والاجتماعية كل من D.PHILL و OPRA، فهذه أيضاً أداة في الصراع، وحين تصبح مفاتيح النجاح كتباً ملونة على الأرصفة، فهي الأخرى أداة في الصراع...الخ. وما أكثر أدوات الصراع الأيديولوجي، وما أحوجنا لتحرك سريع...