رقص.. مسرح.. تطرف

رقص.. مسرح.. تطرف

يسترجع العديد من الشباب اليوم وبكثيرٍ من الحسرة أيام «احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية» على اعتبار أنها واحدة من أكبر الاحتفالات الثقافية التي احتضنتها البلاد في السنوات الأخيرة

حملت فيضاً من العروض المسرحية والموسيقية، وأشعلت سماء ساحة الأمويين بالألعاب النارية! ويتذكرون أيضاً بحزن مشابه مهرجانات السينما والمسرح والرقص السنوية، التي كانت تجعلهم يتنقلّون بصورةٍ جنونية من (مسرح الحمرا) حتى (دار الأوبرا) و(سينما الشام) أو (الكندي). هي ذكرياتٌ وجدت طريقها ومبرراتها الواقعية، في ظل حالة ركود ثقافية بتأثير العنف، وتراجع الأمن ومظاهر «الحياة الطبيعية»، والظروف النفسية الصعبة التي وقفت حائلاً أمام قدرة شرائح واسعة من الجمهور على التفاعل مع الأنشطة القليلة المتبقية، أو تشدد عند آخرين جعلهم يسنون قوانين «تحرّم»  المشاركة بأنشطة كهذه ، على اعتبار أنها إنكار لما يجري في البلاد أو إهانةً لدم الشهداء!

بالعودة إلى الوراء قليلاً، يستطيع المرء أن يلاحظ، أنه وحتى تلك الأنشطة الأكثر أهميّةً- في أكثر مراحل البلاد استقراراً - فشلت باستقطاب شرائح جديدة من المجتمع السوري، كان لها جمهور واحدٌ ضيق قوامه الأساسي طلبة الجامعات، بحيث تكاد تتكرر الوجوه ذاتها، بإستثناء بعض الحالات الخاصة (كالعروض الأولى للأفلام السورية مثلاً).

لماذا فشلت تلك العروض في استقطاب المزيد من الشرائح؟ وماذا كان هؤلاء «المهمشين ثقافياً» يفعلون لملء أوقات فراغهم وإشباع حاجاتهم  الروحية أو الوجدانية بعيداً عن عروض الرقص الصاخبة و الأمسيات الشعرية؟

من الصعب تقديم إجابات حاسمة عن كلّ ذلك. بالرغم من أنه يمكن تميّز اتجاهين واضحين بين الشباب السوري آنذاك، عكسا بصورة صارخة درجة الاغتراب الفكري والثقافي، كتتمة لأشكال الاغتراب الأخرى: السياسي والاقتصادي الاجتماعي-  أولهما التعصّب الديني والرجعة إلى الماضي، الذي أمّن ملاذاً يجعلهم يتوحّدون مع جماعات وأفكارٍ وطقوس تعود إلى مئات السنين. وعلى النقيض، شباب اختاروا التماهي مع ثقافات أو بلدان أخرى تضمن لهم الابتعاد قدر المستطاع عن مشاكلهم اليومية، وتخفف شعورهم بالوحدة، ليعيشوا حقاً حبيسي ألعاب الكومبيوتر والإنترنت، أو متشحين بالسواد مع تسريحات شعرٍ غريبة (ما يعرف بالإيمو)، ينتمون إلى موسيقا (الراب)و(الروك)و (الديث ميتل) ويفقدون أية صلةٍ مع الحاضر.

هؤلاء المهمشون ثقافياً، الذين كانوا خارج أية استراتيجية أو خطة ثقافية تشبع لهم حاجاتهم الثقافية وتوسّع آفاقهم، هم الذين تصدّروا المشهد الآن في كثيرٍ من المناطق، هم الذين كانوا أكثر استعداداً لحمل السلاح، لأن العنف، كما التطرف الديني، يعطيهم الهوية التي أضاعوها، ويجعل صوتهم مسموعاً.

يعلن العديدون  اليوم  صدمتهم من حجم التطرف الذي ظهر «فجأة..!!»، كما لو أنهم لم يشهدوا تحّول دور السينما إلى صالات أفراح في المحافظات والقرى النائية! في حين كان يُفتتح مؤسسات ومدارس دينية جديدة كلّ يوم، لم يلحظوا أن الأمسيات الشعرية ظلّت حكراً على بعض الشعراء الشباب وجمهورهم الضيق فيما بقيت مقاعد القاعات فارغة، وأن أكثر الأنشطة الثقافية أهميةً وضخامةً أُريد لها أن تكون مبهرةً صاخبةً تزيّن المشهد الثقافي السوري، وتخفي خواءه وفشله في استقطاب شرائح واسعة من السوريين، فكلّ ما كان يهمّ حينها: رسم صورةٍ براقة ومُلمعّة  للبلاد.