دق طويلاً على باب العراق من دون جدوى
علي عبد الامير علي عبد الامير

دق طويلاً على باب العراق من دون جدوى

لا جديد في رحيل المطرب العراقي الرقيق فؤاد سالم بعيدا عن وطنه، لجهة تواصل موت مبدعي بلاد الرافدين غرباء عن وطنهم، في مؤشر يعكس ايضاً جحود المؤسسة الثقافية الرسمية. المشهد يتكرر منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، حين بدأت موجة الهروب الكبير الاولى لكتاب وفنانين وصحافيين واكاديميين من طغيان السلطات الحاكمة. الامر ذاته كان حاضراً في عراق ما بعد العام 2003، اذ ظلت البلاد طاردة لمبدعيها حتى ممن تجرأوا على العودة الى البلاد بعدما اصبحت "ديمقراطية".

حكاية صاحب اغنية "ردتك تمر ضيف" التي اعاد غناءها اللبناني عاصي الحلاني، لا تبدو بعيدة عن هذا المآل الحزين، فهو اندرج فكرياً وسياسياً في نهج يساري منذ اوائل عقد السبعينيات في القرن الماضي، مما جعله موضع شكوك المؤسسة الرسمية الثقافية، رغم نتاجه الرقيق في غناء بدا منطقة وسطى بين شكل هو "غناء المدينة" كما رسخه المطرب الراحل ناظم الغزالي، و"غناء الريف"، وهو ما ميز مرحلة واسعة ليس في الغناء والموسيقى وحسب، بل في عموم الثقافة العراقية.

خذ اغنيته الجميلة في لحنها التعبيري العميق "روجات المشرّح" مثالاً لهذا المنحى، فهي تكاد في اداء حان وعاطفي بصوت فؤاد سالم ترتقي بأمواج (روجات) نهر صغير في الجنوب (المشرّح) الى مصاف "بويب" النهر الصغير في قرية جيكور جنوب البصرة، الذي رفعه الشاعر الراحل بدر شاكر السياب الى مصاف كونية.
ولانه بدا منسجماً مع فكره اليساري، لجهة تعزيز قيم الانتصار للحرية والعدل والخير، فقدم ما يؤكد هذا الجانب، في مثال نادر لأغنية لا تسقط في فجاجة "الاغنية الوطنية" وحماستها المفرطة، فكان مع المغنية شوقية العطار ثنائياً رقيقاً في أغنية عن الوطن، بل ان " يا عشقنا" صارت نشيداً لمحبة الناس وخيرهم المرتجى، عبر نص كتبه شاعر شعبي عراقي يساري هو الراحل (توفي في عّمان نهاية تسعينيات القرن الماضي) كاظم الرويعي، وألحان حميد البصري المقيم حاليا في هولندا.

الاغنية تجسد آمالاً بعراق مختلف، ما لبث أن انكشف عن تحولات مرعبة ودموية، فغادر فؤاد سالم الى الكويت عبر مدينته البصرة التي ولد فيها وعرفت موهبته مبكراً عبر اوبريت "بيادر خير" (1970)، وآخر بعنوان "المطرقة" (1971)، ومنها الى بغداد ليتعرف الى الملحن والموسيقار سالم حسين الذي نصحه بتغيير اسمه (من فالح حسن بريج ) الى آخر فني هو فؤاد سالم. ثم منحه اغنية ستكون الأولى في مسيرة المطرب الوسيم الخجول القادم من البصرة، وهي أغنية "يا سوار الذهب" التي قدمت المطرب الجديد بثقة الى الغناء العراقي المعاصر.

وتبدو قصة الراحل فؤاد سالم مع بلاده قصة بلوى حقيقية، فهو حين الى هرب الكويت بعد منعه من دخول مبنى الإذاعة والتلفزيون في بغداد (ورشة الانتاج الغنائي والموسيقي الوحيدة في البلاد)، عرف تجربة "النغم الخليجي" في عودة الى اصوله النغمية والاجتماعية "البصراوية". وظل هناك حتى طارده العراق مجدداً بغزوه الكويت، (المكان الامن الذي هرب اليه)، ليعيش فترة في سوريا مع جمهرة من المثقفين والفنانين المعارضين لنظام صدام، وبعدها اصبح لاجئاً إلى أميركا التي تركها ليعود الى دمشق التي حنت عليه، حتى بعد سقوط النظام العراقي السابق 2003، ورحلاته الى بلاده للقاء محبيه في مشاهد احتفالية بدت عاجزة عن ايفائه حقه، والعناية به بعد تدهور صحته.

ومثلما رحل الجواهري والبياتي ومصطفى جمال الدين وكثيرون من شعراء العراق ومثقفيه وفنانينه في دمشق، رحل فؤاد سالم فجر السبت، وهو الذي كان يرتسم رحيله المأسوي على طريق الراحلين من صفوة مبدعي بلاده: "أنتمي إلى هذه العائلة المبدعة، هؤلاء هم الناس الكبار الذين تربّوا على الإبداع وربّونا وأعطونا الكثير ونحن لم نعط شيئاً، ومن المؤسف أن تموت الفنانة زينب في الغربة وكذلك الجواهري والبياتي ومصطفى جمال الدين، نحن نطالب بحقوق المثقفين والمبدعين الذين ماتوا، ولا بد أن نجد إنساناً يقيمهم، لأن التاريخ سيتذكره".
رحل فؤاد سالم غريباً، وهو الذي ابدع قصيدة السياب "غريب على الخليج" وفق غناء من قالب القصيدة المحكم في تركيبه اللحني، بل إنّه مثل اغنيته "دكيت بابك يا وطن"، دق كثيراً على باب العراق ولكنّه ظل موصداً امامه.


المصدر: الأخبار