وصفة السعادة.. بالأمثلة
في جنوب المحيط الهادي، تقع جزيرة صغيرة تدعى: «فاناتو»، هي دولة قائمة بذاتها تتمتع بحكم مستقل ذاتي وتدير شؤونها بنفسها، ربما لم تسمع باسمها أبداً، وربما لم يسمع أحد عنها حتى العام 2006، فهو العام الذي تصدرت هذه الدولة فيه لائحة طويلة ضمت بقية دول العالم المائة والثماني والسبعين حينها
فقد حصلت هذه الدولة على المرتبة الأولى في إحصائية لقياس معدل «السعادة» للفرد، وحصدت لقب «أسعد بلد في العالم»، وتغلبت على ألمانيا التي نالت المركز الواحد والثمانين، واليابان في المركز الخامس والتسعين، بينما حلت الولايات المتحدة الأمريكية في المركز الخمسين بعد المائة!.
إنه لأمر غريب أن تتمكن مثل هذه الدولة الصغيرة من التربع على عرش السعادة بعد أن تم حساب معدلات متوسط عمر الفرد ومستوى التعليم والطبابة ومقارنتها مع بقية البلدان الكبرى التي تتغنى يومياً بالحياة «الكريمة» التي توفرها لشعوبها، والأغرب من ذلك أنها احتلت المراكز الأخيرة في إحصائيات معدل الناتج المحلي الإجمالي، في المركز السابع بعد المئة على وجه التحديد!
يبدو أن مثل تلك الإحصائيات السنوية تدل على حقيقة يتجاهلها الكثيرون، إن معظم البلدان الغربية الغنية التي تستهلك يومياً معظم موارد العالم هي من البلدان غير سعيدة ، بل وهي أقل سعادة بكثير من بلدان أخرى تصنف كـ«فقيرة» وتستهلك مقداراً متواضعاً جداً من المصادر ذاتها، لكن هل تكفي هذه الإحصائية المقدمة من مؤسسة بحثية غير ربحية في تفضيل هذا الاستنتاج عن غيره؟ هل يمكن إهمال تأثير «الثروة» في البلدان الغربية الكبرى في رفع مستويات المعيشة وتأمين حياة «سعيدة» لمواطنيها فقط لأن دراسة ما بينت عكس ذلك؟ يبدو أن الأمر سيصبح أبسط بكثير إن بحثنا في بعض الأمثلة.
استثمارات الصحة والحروب..
دولة بوتان، دولة صغيرة في جنوب آسيا، حلت في المراتب الأولى في إحصائية السعادة تلك، رغم أن نظامها السياسي «متخلف» في نظر العديد من الدول الغربية، وثلث سكانها يعانون من قلة الموارد وانخفاض الأجور إلى حد مخيف!! إلا أنها تحتل المراكز الأولى بين دول جنوب آسيا الأخرى فيما يتعلق بالناتج المحلي الإجمالي، وفي مستويات جودة التعليم والصحة العامة، وبالأخص في مكافحة الملاريا، وهي لا تخفي حاجتها إلى تحديث وتطوير بنيتها الاقتصادية والاجتماعية، فهي تشجع أي محاولات للنمو الاقتصادي على ألا تتعارض من مبادئ الدولة الفكرية وثقافتها وتراثها واحترامها للطبيعة الأم التي تتقاطع مع احترام أفكار الديانة البوذية المنتشرة هناك.
أما كوستاريكا، فقد احتلت المركز الأول في نسخة 2009 من الاحصائية ذاتها، البلد الذي لا يملك جيشاً على الإطلاق منذ العام 1949، هو اليوم يستثمر في تقنيات التعليم ومراحله كافة، مما انعكس إيجابياً على استقرار الاقتصاد المحلي وسوق العمل والتوظيف، وانسحب تأثيره المفيد على مستويات الطبابة والصحة العامة في أنحاء البلاد كافة، وهذا أدى إلى معدلات عمرية مرتفعة جداً تفوقت على معدلات الصحة العامة في الولايات المتحدة الأمريكية خلال العقد الماضي وبأرقام مثيرة للاهتمام، «يبدو أن الاستثمار في المجال الصحي قد أثبت فعاليته أكثر من الاستثمار في الحروب»، تعلق إحدى الصحف الكوستاريكية على الخبر!
الجشع والسعادة..
الدنمارك، أسعد بلد في العالم في نسخة العام 2007، وهي مثال جيد عن العلاقة بين الثروة الإجمالية ومستويات السعادة في أي بلد، فهي من الدول الغنية نسبياً في الغرب، لكنها ليست بغنى جيرانها الأوربيين كبريطانيا مثلاً، فهي ببساطة «الأسعد» وفق ما تم جمعه من بيانات، ويعود ذلك إلى استثمار الحكومات الدنماركية المتعاقبة في سياسات اقتصادية– اجتماعية عادلة تركت تأثيرها «المفرح» على عامة الشعب.
وبالعودة إلى «لائحة السعادة»، يبدو أن جميع الدول الإسكندنافية الأخرى قد احتلت المراتب القريبة من القمة من ناحية مستويات المعيشة والعدالة الاجتماعية في توزيع الثروات، مما يدفع إلى الأذهان حقيقة جلية، «الجشع ليس وصفة للسعادة»، فقد احتلت تلك البلدان المراتب الأولى لا لغناها أو فقرها، إذ أن الثروة بالمطلق لا تعني شيئاً على مقياس السعادة، ما يهم هو طريقة توزيعها العادلة، فتركز الأموال في أيادي قلة من الناس في بلد ما، وتكديس الثروات دون أي استثمار حقيقي في الإنسان، سيترك تأثره السلبي على حياة الناس، كما أن الدول التي استهانت بقدرة الأجيال القادمة على البناء والعمل بقيت في قعر تلك اللائحة، بمعنى آخر، تبدو البلدان البعيدة عن نهج الليبرالية الجديدة الأمريكية اجتماعياً واقتصادياً، ولسياسات القوى الكبرى الاستعمارية «سعيدة» للغاية، فالاستثمار المركز في التعليم والصحة والنهوض الفكري المتوازن للمجتمعات هو السر في تفوق دول بإمكانيات اقتصادية متواضعة على بلدان أخرى تتبجح يومياً بحياة رغيدة ومرتب عال وسيارات فاخرة وبيوت وعمارات شاسعة لكن دون أن ترتسم أي ابتسامة على وجوه السواد الأعظم من شعوب تلك البلدان، تلتهمهم يومياً آلة استهلاكية جشعة ابتلعت الأرض وما عليها تتباطأ يومياً إلى أن تتفجر إلى فتات.