دروسٌ من سوق «البزوريةّ»..
الطحين الأسمر والأبيض والفريكة والبرغل والسميد والمعكرونة كانت جميعها يوماً سنبلةً في حقل. إلا أن المرء يمكن أن يقف أمامها في السوق محتاراً ضائعاً بين اختلاف الطعم والقوام وطرائق التحضير بحيث ينسى تلك السنبلة ويظن أن السميد كان سميداً دائماً. المواد تصطف في دكان البائع، لكلٍ منها سعرها واسمها المختلف، لكن لا مكان للسنابل الخضراء أو الذهبية، إذ لم يسبق يوماً أن أتى زبونٌ يرغب في قضم سنبلةٍ نيئة.
لكل حيٍ غبارهُ، والتوابل غبار البزورية وهواؤها، ربما يصبغ الكركم الرز داخل قدرٍ بلونٍ أصفرٍ شهيٍ، إلا أن ذراته المتناثرة على الأرض بفعل حركة خرقاء أخطأتها يد بائع ستحيل الرذاذ الذهبي إلي غبارٍ يوسّخ بلاط الشارع الأسود..
في البزورية أكاسير الحياة، وتعاويذٌ للجمال، سحالٍ محنطة وثمار بحر، مراهم ومناقيع وخلطات تَعِدُ ببشرة مشدودة وشعرٍ لامع. في البزورية يباع الوهم لزبائن يخافون الموت والتجاعيد
- على طول الشارع تفيض السلال والأوعية بالبضائع ذاتها: توابلٌ وحلويات وصابون غار، لكن بطريقة أو أخرى يستطيع أحد الباعة أن يقنعك بأن لأعواد القرفة في دكانه رائحة مختلفة، أكثر عبقاً ونفاذاً، وأن للشطة الحارة عنده لونٌ أشد احمراراً.
في السوق القديم يكون الزمن «قيمةً مضافة»، كما لو أن الباعة يدركون توق المارة لتلمس الإرث المختبئ في زوايا الحي وهم يعبرون الشارع بحثاً عن التاريخ، لذلك تباع لهم البهارات والمكسرات مضافاً إليها قيمة بلاط الشارع القديم وشبابيك الخان الأثري والثريات التي تتدلى من قباب السقف..
في الوقت التي تتجاور فيه المحال وتفصل بينها جدرانٌ صلبةٌ تحدد منطقة نفوذ كل بائعٍ وحدود مملكته، تتحد الروائح ويتداخل عبق القهوة المطحونة للتو مع خبز الفرن الطازج في آخر الشارع ورائحة الغار والتوابل والمكسرات المحمصة الساخنة التي تشكل كلها سحابة تلف المكان، تؤلف مجتمعة
رائحة خاصة، رائحة السوق القديم.
لحركة الناس في الشارع قانونٌ خفي يحكمها وإيقاعٌ ينظم سيرها حتى في أكثر اللحظات ازدحاماً حينما تبدو الحركة عشوائية مبعثرة خارجةً عن أي نظمٍ.
في البزورية يبتلع الضجيج والصخب جميع الأفكار والمخاوف التي تضج بها النفس محيلاً إياها إلى سكون، ويشعر المرء بآلاف الأيدي الخفية التي تحتضنه والشفاه التي تهمس له: «أنت لست وحيداً».