يوميات مواطن.. البعثة الداخلية
«هذا التمثال يتحدى الزمن..» قلتها وأنا أنظر ملياً إلى تمثال «يوسف العظمة»، مررت بالساحة التي تحتضن هذا الشامخ وأصوات المدافع لم تهدأ منذ الصباح، أمر يومياً من هنا، لكن «أتسقط قذيفة هنا على هذا التمثال؟» نفضت الفكرة من رأسي بنزق، «لقد رأى يوسف الكثير الكثير..!!».
تجاوزت الساحة، وإذا بوجه مألوف يقفز إلى الواجهة بين الزحام، «أعرف هذا الرجل»، اقتربت أكثر منه منادياً، «أيها العفن..!!»، التفت إلي على الفور واقترب نحوي، «أيها الشيوعي الشرس!!» أجابني ضاحكاً، إنه صديقي مأمون، زميلي في «البعثة الداخلية» منذ أكثر من 18 عاماً!!
إنه أحد زملاء السجن، كنّا نسميه «البعثة الداخلية» تحاشياً، لم يكن أحد ليجرأ أن يذكره، فهو متهم حتى لو خرج بريئاً، فرحت بلقائه رغم الأسى الذي تحمله أصوات المدافع البعيدة.
صديقي مأمون من درعا، وقد سجن بسبب انتماء أخيه إلى بعث العراق الذي سمّي حينذاك بـ«اليمين العفن»، وهو معلم رياضة لا ناقة له بالسياسة ولا جمل وأربع سنوات قد ضاعت من عمره هدراً، ناهيك عما حمله ذلك عليه وعلى أسرته.
أمّا تسميتي بـ«الشيوعي الشرس»، فكانت بسبب اعتقالي لأني رُشحت لنقابة المعلمين خارج قائمة الجبهة ونجحت، ورفضت مراجعة الأمن دون استدعاء رسمي سواء عن طريق النقابة، والتربية، أو القضاء.. فاعتقلت من الشارع بعد عراك صاخب، وانتهت القضية بأربع سنوات أيضاً مع حرمان من العودة إلى العمل لأكثر من عشر سنوات!!
سارعنا للدخول إلى أقرب مقهى وطلبنا كأسين من الشاي، تبادلنا أطراف الحديث عن الأحوال المعيشية والصحة والأولاد، وقلة عددهم على وجه الخصوص وفارق السن بين الولد الأول والثاني. «السجن أفضل طريقة لتحديد النسل» غمزته ممازحاً، إنه يعلم جيداً ما أقول، فقد كانت فترة سجننا قليلة واستطعنا أن ننجب لاحقاً، بينما خرج غيرنا عاجزاً نتيجة السن أو المرض وغيره..
بدأت الذكريات تتداعى، حدثني عن البطاقات التي كنت أرسمها وأوزعها على مختلف المشارب في السجن ولبعض الأصدقاء في المناسبات كعيد رأس السنة والأول من أيار وعيد الجلاء، كنت أرسم عليها شمساً أو قرنفلة حمراء أو علم وخارطة الوطن، كم أفرحتنا هذه البطاقات الصغيرة، بينما كان البعض لا مبالياً تجاهها، وكان آخرون يتمنون أن تأتي «إسرائيل» وتحررهم، تنهدنا سوية وهززنا الرؤوس كما كنا نفعل وقتئذ، تحول الحديث حول الأوضاع الحالية، حول شركاء السجون الطويلة.. والقابعين اليوم في الخارج.. يستقوون على الوطن بالأجنبي ويدعون التكفيريين للمجيء وذبح السوريين.
أخبرتُ صديقي كيف يدعي الآن، من كان أميناً لفرع البعث والمحافظ والوزير الفاسد وأشد المؤيدين لاعتقالي، وعندما تظاهر أهالي البوكمال ضدّ العدوان الأمريكي على العراق قال: «رشوهم من السرة وما فوق»، أنه «معارض» ويقول: «إنّ سورية أمانةً في أعناقنا نحن المعارضة..!».
وضعت يدي على كتفه وتابعت: «تصور يا زميل البعثة الداخلية أنني التقيت بك بعد 18 عاماً في هذا الزمن الأغبر.. ولم ألتق بكثير من الأهل والأقارب والأصدقاء منذ أكثر من سنة ونصف. تبعثر الجميع بسبب التهجير في الداخل والخارج واستشهد من استشهد وفقد من فقد.. استحال بيتي إلى رماد.. تألمت على مكتبتي كثيراً..». قاطعني قائلاً: «لا تشكيلي أبكيلك..»، لكن الشكوى لم تنقطع، ولا انقطع معها حديث الذكريات، إنها ثمانية عشر عامأ غمست بالسواد في أشهرها الأخيرة، ومن يقدر على فهم ذلك اكثر من صديقي، زميل البعثة العفن..