«الأورويلية».. سلاح الدمار الشامل
«حين تكون الوظيفة الأساسية للخطب والكتابات السياسية هي الدفاع عن سياسات لا يمكن الدفاع عنها أو تبريرها في الواقع، تصبح اللغة التي تستطيع جعل الأكاذيب تلبس ثوب الحقائق أداة حتمية لضمان استمرار هذه النظم. وهو ما يؤدي بدوره إلى تدعيم هذه اللغة الفاسدة المضلِّلة، وتقويتها حتى تًصبح مهيمنة ومسيطرة، بينما تُحارب اللغة الصالحة الكاشفة، بما يؤدي إلى اختفائها وتواريها» جورج أورويل
تعود العلاقة بين اللغة والسياسة إلى قديم الزمان، ويمكن للمهتمين التواصل مع آثارها في النتاج الفكري للحضارات القديمة، حتى ارتبطت البلاغة ارتباطاً وثيقاً بالسياسة كما في بلاد اليونان القديمة. وأخذ الفضاء الأكاديمي المعني بالعلاقة بين اللغة والسياسة يتمدد ببطء شديد، جاذباً إليه حفنة من الباحثين على مر السنين، والكل يبحث في الدور الذي تلعبه اللغة في تشكيل عقل الإنسان، وبناء معتقداته وأفكاره، وصياغة توجهاته وسلوكياته.
ربما كان المشروع الذي قدمه الكاتب والروائي البريطاني «جورج أورويل» لنقد لغة السياسة من أهم ما كتب في هذا المجال، حيث قام في مقاله الشهير «السياسة واللغة الإنجليزية» بتغطية جوانب العلاقة بين اللغة والسلطة من ناحية، واللغة والفكر من ناحية أخرى. وما زالت أفكاره هذه تدرس حتى بعد مرور أكثر من ستين عاماً على كتابة ذلك المقال، وأصبح مصطلح «أورويلي Orwellian»، ذائع الصيت يُطلق على اللغة أو الكلام أو التعبير الذي يمارس التضليل والتزييف، حيث وصف «جورج أورويل» الكتابات السياسية في وقته بأنها كتابات سيئة. ولم يلبث بعد قليل أن جعل فساد اللغة سبباً في حالة الفوضى السياسية التي رأى أن عالمه يعيشها. ومن ثمَّ رأى أن إصلاح اللغة السياسية يمكن أن يكون خطوة أولى نحو إصلاح السياسة، وتوصل إلى أن الحل يكمن في السخرية من عيوب تلك اللغة، وفضح عيوبها في كتابات رائدة واعية قد تؤسس لحالة نهضوية في السياسة واللغة على حد سواء.
على كل حال، ربما يفاجأ «أورويل» بما نسمعه يومياً من ضجيج المفردات والكلمات على مختلف المنابر، وسيرى إثباتاً قاطعاً على صحة نظريته وتجاوزها لحدود اللغة الإنكليزية التي بدأ بها في مقالته، وستطرق رأسه «لغة خشبية» على مصطلحات وقوالب معلبة تستند إلى مقدار ضئيل من الزاد الفكري، تبدو بلا روح ولا طعم، حتى أنك تستطيع التنبؤ بنهاية الجملة عند سماعك الكلمات الأولى منها، تهدف دائماً إلى الدفاع الأعمى عن فكرة لا تمت إلى أصول المنطق ولا تحوي أي قيمة أو رصيد فكري أو جماهيري.
وقد انقسمت اللغة إلى مفردات «سلبية» وأخرى «إيجابية» تحددها الانتماءات والأهواء السياسية، وظهرت «اللغة الدعائية» كوسيلة لفرض تحليل محدد حول خبر ما، ولتعبئة المستمعين والمشاهدين من الجماهير في أطر محدودة الأفق خدمة لمصالح إحدى الفئات دون الأخرى، ومن غير وجه حق في معظم الأحيان، وأصبح الكلام طريقة من طرق الخداع يراد منه منع الجمهور من الاستماع إلى خطابات أخرى، وازداد استخدام «الكليشيهات» والتعبيرات الجاهزة في الإشارة إلى الأشياء والوقائع المزعجة وغير المرغوب فيها بالتجريد الخبيث للكثير من المفاهيم على شكل شعارات مسمومة تلوي المنطق وتشوه الحقائق وباستخدام الكلمات المعقدة والدخيلة والاستعارات الرديئة غير القائمة على التشابهات الحقيقية بين الأشياء، لينتهي الأمر بقوالب جاهزة للخبر، ولغة ومصطلحات متفق عليها تُفرض على الجميع، حتى أصبح استخدام أحد أنماط تلك اللغة دليلاً على موالاة صاحب القول للتيار الذي تبنى ذلك النمط من الكلام.
والأخطر بحق هو ذوبان تلك المفردات في الوعي الشعبي للناس، لتتحول تلك القوالب المغلوطة إلى نمط وحيد للتحليل والتفكير عند البعض - مثل جملة «هي الحرية اللي بدن ياها؟!» التي درجت على الألسن. يبدو أن هذا هو الهدف الأول لبعض المنابر الإعلامية السورية والعربية والعالمية المرتبطة بأطراف الصراع الداخلي المحتدم والمراهن على استمراره وابتعاده عن أي حل سياسي حقيقي شامل، مما قد يؤسس لتشوه فكري مجتمعي واسع النطاق وعميق التأثير يستند إلى الحقد والكراهية وإلغاء الآخر في ساحة حرب أصبحت فيها الكلمة سلاحاً للدمار الشامل!