البازلت.. حجر الزاوية
في الماضي كان هناك مدينةٌ استمدت اسمها من حجارتها السوداء؛ حجارةُ صلدة خشنة سالت يوماً على هذه الأرض حمماً بركانية قبل أن تتخذ هيئتها «الحجرية»، أعطت المكان اسمه والناس طباعهم، ورسمت جغرافيا المدينة وحدود شوارعها وبساتينها.
لا يكون للحجر الأسود اللون ذاته كل مرة: فهو يتفاعل مع الظل والنور ليتبدل ويتغير، يمتص حرارة الشمس ويميل إلى الحمرة عند الغروب ليبدو كما لو أنه سيحفظ الدفء إلى الأبد -دفء جميع الشموس التي سطعت عليه منذ آلاف السنين وأخرى لما تشرق بعد- يصبح أكثر زرقةً مع اقتراب الليل وحتى الغسق. وحينما يظن المرء بأنه لا يمكن أن يغدو أكثر سواداً: يأتي الشتاء، ويتسرب المطر إلى جوف الصخر فيبلله ويغسله. لكنه لا يستحق اسمه حقاً إلا بتناقضه مع بياض الثلج الذي يرتاح على الأسطح وحواف الشبابيك. ولا يكون للثلج هناك ذلك اللون المبهر لأن الحجر يعرف كيف يروضه ويحده بخطوطه السوداء.
ميّز الحجر الأسود سكان المدينة بمتعٍ صغيرةٍ لم يختبرها قاطنو «المدن البيضاء»، كمراقبة الضوء وهو يتسلل من شقوق وفراغات الحجارة التي صُفت على عجل فوق بعضها البعض جدراناً واطئة لا تتطابق حجارتها بصورة نهائية، وتبقى هكذا: «حيطان قادرة على التنفس». امتلك الأطفال هناك مساحات لا منتهية من صخورٍ مختلفة الأحجام والأشكال كي يُعملوا فيها خيالهم، ويحولوها إلى غرفٍ للجلوس أو قلاع وقصورٌ قديمة ينصبون أنفسهم حكامها وملوكها.
باحت الحجارة بأسرارها لبعض سكانها كي يستطيعوا وحدهم كسرها ببضع قطرات من الماء وإزميل صغير، فيما تبدو عصيةً على الكسر والتجزئة لمن لا يعرفها، وتركت لهم مشنقة أثريةً ضخمة وأعمدةً وقناطر ومدرجاً حجرياً صغيراً يحتضنهم ويتسع لأحلامهم بعروض وحفلات موسيقية ستقام ذات ليلة، وأهدتهم إحدى أقدم كنائس العالم التي تدفن الآن تحت أوتستراد عريض شاءت له سلطة المال أن يبنى على أنقاض مدينةٍ أثرية.
لا يمكن رواية تاريخ المدينة دون أن يكون البازلت «حجر الزاوية» في كل حكاية، كيف كان الفرنسيون سيضلون طريق الثوار إن لم يضيعوا بين صخور اللجاة؟ وكيف كان الأحفاد سيتباهون بقوة أجدادهم الذين حملوا الحجارة السوداء على ظهورهم وبنوا صروح المدينة؟! وكيف يعقل لمدينة أن تحتفظ باسمها فيما تفقد يوماً بعد يوم الحجر الذي كان أصل الحكاية ومبررها؟
سيقف طفلً صغيرٌ يوماً ما.. حائراً وهو يتأمل الاسم المضلل في الخريطة، ويقارنه بالمشهد الأسمنتي المتسخ الباهت أمام ناظريه، وسيسأل أين ذهبت تلك البيوت التي شيدت من الحجر الأسود. ربما سيجيبه أحدٌ ما، بأن البيوت القديمة هدمت لضرورات المساحة، ولم يكن لها مكانٌ في خطة «لا تخطيط» البلدية، وأن الناس باعت حجارةً بيوتها «بالمفرق» حجراً بعد آخر في سنوات الجوع والفقر..