بالزاوية : أنا عندي حنين..
من أين ينبعث ذلك الشعور المفاجئ بالشوق لأناس أو شخصيات معينة, عبروا حياتنا وابتعدت تأثيراتهم وصورتهم، ثم استحضرت من الذاكرة لاحقاً؟ وكيف يتسلل الحنين الى أمكنة بعينها, أو ذكريات ومواقف لم تكن حميمة دوماً؟ .
وإذا انطلقنا من هذا الشعور الفردي الى المستوى الاجتماعي الأعمق، فلماذا تحن المجتمعات عموماً إلى مراحل تاريخية محددة في ماضيها؟ ولماذا تبقى العواطف الجمعية في أحيان أخرى أسيرة لمراحل معينة من الماضي؟
تعاني التفسيرات النفسية ذات الطبيعة الفردية من مشاكل جمة في تفسير مشاعر (الحنين) إلى الماضي، سواء كان هذا الحنين والتعلق في درجاته الطبيعية أو عندما يبلغ درجات مرضية تستوجب المعاينة والمعالجة من وجهة النظر النفسية!
يبدو شعور الحنين في هذا النوع من التفسيرات، شعوراً مختلطاً ومؤلماً، يبعث على التشويش أكثر مما قد يغني العاطفة ويلبي الحاجة الإنسانية, فإذا كان من المريح تماماً أن يكون الحنين للماضي متلبساً كل المراحل المضيئة والناجحة في حياة الأفراد والمجتمعات، فليس منصفاً وليس منتجاً أن يجري الحنين المؤلم على سلسلة كاملة من المحطات والمراحل حيث تختلط الإنجازات بالخيبات دون قدرة على فرزها وتحديدها والانطلاق بعد ذلك لتجاوز الشعور بالأسر!
يبرز هنا مفهوم الاغتراب بمعناه الفلسفي وأبعاده الاجتماعية والسياسية، كأحد المفاهيم التي يمكن أن تسهم في تفسير ظاهرة الحنين للماضي، وتطورها أحياناً إلى حالة مرضية بالمعنى الاجتماعي، خاصة عندما يهرب الناس من واقعهم كلما اشتد الظلم الاجتماعي عليهم وانعدمت القدرة على اشباع حاجاتهم الإنسانية, فيرتد وعيهم نحو الماضي كحالة تراجع وكخط دفاع لمواجهة من يسعى لسلبهم حقوقهم ومشاعرهم وثقافتهم, ومن دون أن يعني ذلك أن الماضي كان جنة بالنسبة إليهم! لكن ومقابل هذه الحالة السلبية هناك مشاعر حنين من نوع مختلف لا تنطلق هرباً من الواقع بل من مواجهته، فنجد الحنين إلى تلك المحطات من الماضي التي كانت الأكثر تقدمية وإشراقاً في حينها، ومعها كل منظومة الإشارات والرموز المرتبطة بها, ربما كان هذا الشعور بالتحديد هو الحنين الصحي بالمعنى الاجتماعي