(رينيه).. وأحجارنا
بعيداً عن أصوات القذائف، وعلى أطراف المدينة المنكوبة، توقفت السيارة عند آخر الطريق الترابي، ترجل منها أربعة رجال مدججين بالأسلحة واندفعوا يحملون صندوقاً خشبياً ثقيلاً إلى خلف التلة القريبة، كان الرجلان الآخران ينتظران في قلب ضباب الصباح
إنها ليست صفقة العمل الخامسة هذه الليلة، وسرعان ما سيتلقفون الصندوق من أولئك الرجال ويرمون لهم حقيبة سوداء دون أية كلمة، لن يفهم أي من حملة الصندوق سبب اهتمام أي كان بتلك الحجارة المكدسة في الصندوق العتيق، «لا يهم.. صندوقان آخران وسأصبح قادراً على تسديد كل ديوني..»، ومع حلول الصباح سيغادر الرجلان هذه الأرض المقفرة تعلو وجهيهما ابتسامة خبيثة لا تخفي درايتهما بالقيمة الحقيقية لهذا «الحطام».
إنها الوجه الجديد من الأزمة، لكنها اليوم تتقدم للنيل مما تبقى من روح السوريين وهويتهم، ولم يعر أي من أطراف الصراع اهتماماً للأخبار اليومية عن مجموعات تستغل هشاشة الوضع القائم في سرقة الآثار وتهريبها التي شاعت في مناطق التوتر، وتورط جهات «حكومية» في تسهيل سرقة تلك الكنوز التاريخية عن طريق منظومات فساد ورشوة لا رادع لها ولا ضمير.
ورغم تعدد الأقوال، إلا أنّ أحداً لم يوجه أصابع الاتهام إلى أحد بشكل واضح، واقتصر الحديث على «عصابات آثار»، لكن الأمر يبدو أعمق من ذلك بعد تسريبات عن تورط جهات أجنبية في هذه العملية ودخول تكنولوجيا متطورة لسرقة الآثار والكنوز بمساعدة الأقمار الصناعية، بغية سلب هذه المنطقة الغنية من تراكم ثقافي غارق في العراقة والجمال، وسبي الموروث المعرفي في إطار مشروع يحاكي ما فعله الأمريكيون بالآثار العراقية من سلب ونهب.
وبذكر العراق، أذكر «رينيه»، صديقي الفرنسي الوحيد، أذكر لهجته الإنكليزية المشوهة خلال زياراته الصيفية لسورية، لا يمل «رينيه» من عرض صور له ولمجموعة من أصدقائه «العجائز» وقد رفعوا اللافتات «لحماية آثار العراق» من النهب والتدمير، كان «الغزو» في أسابيعه الأولى، ولم يكن أحد يهتم كثيراً بالآثار، بعد رؤية حرائق بغداد على قنوات العالم أجمع، سحرتني أحاديث «رينيه» «المستشرق»، شعرت بالحبور، وهو يروي لي عن زيارته الأولى إلى سورية مع بعثة تنقيب فرنسية، «الأمر الرائع في سورية هو أنها تشهد على نشوء القرى الأولى في التاريخ» يقول «رينيه» وهو غير قادر على إخفاء دهشته الممزوجة بالغبطة «يمكن أن يحفر المرء في أي مكان ويجد آثاراً، لم أر في حياتي شيئاً كهذا». لكنه لم يأت منذ سنتين مكتفياً برسائل قليلة يرسلها عبر الأنترنت «في أفاميا، وجدت مقطعاً مصوراً يظهر لصوصاً، ينتزعون فسيفساء بواسطة آلة ثقب».. «سرق تمثال روماني من الرخام من متحف أفاميا»..
«مجانين».. كانت هذه آخر رسائله.. أرفقها بصورتين جويتين تظهر مقارنة مثيرة للدهشة عن حجم التخريب الذي تعرض لهما موقع أفاميا نتيجة أعمال التنقيب، لم أبعث بأي رد، ربما لأنني أرى بأن لا ذنب لي فيما يحصل، لكن اهتمام هذا العجوز بقي يثير عجبي، «هل من المعقول أن يهتم الفرنسي أكثر منا؟» يزعجني السؤال «دعك من ذلك.. أرواح الناس أولى بالاهتمام».
هذه الآثار ليس ملكاً لأحد، إنها ملك لنا جميعاً، هي خلاصة العقول ومكنونات القلوب الساكنة في حجارة الأعمدة وعلى لوحات الجدران، هي مسؤولية الجميع دون استثناء، لأنها جمعت شعبنا يوماً تحت راية واحدة، هي راية المدنية الأولى، والتجديد والاستمرارية، راية الخصب الفكري والعلمي بشتى فروعه. الراية التي انطلقت يوماً عبر أرجاء هذه البلاد من أدناها إلى أقصاها، لتتعدى حدودها إلى مدن الأرض، وها نحن اليوم نحطمها ونلوثها ونسلمها بأيدينا للسارقين والعابثين حتى يصبح الحقد والقتل والبغضاء موروثنا الوحيد للأجيال القادمة.