تحقيق مع مواطن فوق الشبهات
اتحفتنا السينما الأوروبية في سبعينيات القرن الماضي وفي عصر امتاز بحدة الصراع بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي, وحروب دامية وسلطات قمعية, بالعديد من الأفلام السياسية ذات المستوى الرفيع, والتي تعاطت مع أسباب التسلط والقمع والأنظمة الفاشية, ومنها كان الفيلم الفرنسي Z أو «مايزال حياً», والفيلمان الإيطاليان «الموافق», و«تحقيق مع رجل فوق الشبهات» للمخرج «إيليو بيتري».
يستعرض «بيتري» في هذا الفيلم الأنظمة القمعية وهوس السلطة عن طريق دراسة شخصية لمحقق غير مسمى, يناديه الجميع بالدكتور. يملك «الدكتور» سجلاً ناصعاً في قسم الجرائم فهو يقبض على 90 بالمئة من حالات الجرائم, ولهذا تتم ترقيته إلى منصب رئيس الشرطة في روما, التي كانت تشهد العديد من المظاهرات والأعمال «التخريبية» لفوضويين و«شيوعيين» ثائرين, إذ ملأت رسومات ماو وستالين وهوشي منه الجدران, دون أن تتمكن السلطات من فعل شيء لها.
في خطابه كرئيس للشرطة, والتي استقاها «بيتري» من خطب موسوليني, يظهر الدكتور نواياه القمعية يؤكد «القمع هو الحضارة», فالمخربون والثوريون لا يختلفون عن المجرمين برأيه, والمجلات والأحزاب السياسية لا تختلف عن الجريمة المنظمة, «فالحرية تجعل كل مواطن قاضياً, وتمنعنا من أداء عملنا».
الدكتور رجل سادي، يعاني من مرض القوة وعبادة السلطة, فبالنسبة له يمثل تشبيه أفعاله بأفعال الأولاد أصعب ما يمكن أن يقال له أو يوصفه حتى لو كان على سبيل المزاح. يقيم الدكتور علاقة مع فتاة مازوخية تعبد سلطته وقوته, ولكن عندما تخونه مع شاب صغير يحس بالضعف, فيقرر أن يحول ألعابهما المليئة بالجرائم وأساليب الشرطة, إلى حقيقة فيقتلها في شقتها, ثم وببرودة أعصاب وجنون يزرع شقتها بكل الأدلة التي تقود إليه, كالبصمات وأثار الأقدام, ويتعمد أن يراه الناس خارجا من شقتها.
يريد الدكتور إثبات قوته وسلطته, فيمارس لعبة مثيرة القط والفأر مع زملائه المحققين في الجريمة, ويعتمد على قوة شخصيته وسلطته ليبرأ نفسه كل مرة من الاتهامات التي توجه إليه بخجل, وعندما يبتعد التحقيق عنه, يحرفه إليه مرة أخرى, حالماً أن يكون رجلا يثق به الجميع ويحترمه, إلى أن يصبح رجلاً فوق الشبهات حتى رؤسائه, رجلاً يكذبه الجميع عندما يعترف بالخطأ, ربما لأن السلطة القمعية يجب أن تتعاضد مع بعضها كي تبقى حاكمة.
الفيلم مليء بالإثارة والتشويق والرتم السريع, ويعتمد المخرج «ايليو بيتري» بشكل رئيسي على غرابة القصة وحيويتها, لشد المشاهد, ويبتعد عن الحيل الإخراجية, فكل شيء واضح منذ البداية في جريمة القتل, من خلال كشف تفاصيل العلاقة بين الدكتور وحبيبته على طريقة «الفلاش باك», والجنون الذي يمارس به الدكتور ألعابه مع زملائه, مع الإسقاطات الواقعية من قلب الحياة السياسية الإيطالية, بالإضافة إلى حضور شخصية الممثل «جان ماريا فولونتي»,الذي أدى دور الدكتور المهووس السادي بنجاح باهر, حيث لا يمكن لمشاهد الفيلم أن ينسى بسهولة خطبته الموسولينية وانفعالاته وجنونه وطغيانه على الشاشة. كل ذلك ساهم في حصول الفيلم أوسكار أفضل فيلم أجنبي وجائزة مهرجان «كان» الكبرى في عام 1970.