موفيولا... سيناريو بقناع روائي
يُظهر مساق الحوادث في رواية «موفيولا» للكاتب السوري الفلسطيني تيسير خلف، الصادرة عن دار فضاءات في عمّان، رسوخ قدم صاحبها في كتابة الرواية التاريخية، فقد تضمنت إشارات مكثفة، وسريعة، بلا تفصيل، لأحداث كبرى عرفها العالم بين العام 1925 والعام الأخير في الرواية، وهو العام 1987.
تنهض أحداث رواية «موفيولا» على مجموعة من الوقائع الكبرى في التاريخ العربي الحديث، أهمّها الهجرة اليهودية لفلسطين، واللجنة العربية برئاسة الحاج أمين الحسيني، وإضراب شعب فلسطين الذي استمر 6 أشهر، وثورة 1936 ونشوب الحرب العالمية الثانية، وما جرى على هامش تلك الحرب من تحالفات، ....وما أعقب زيارة السادات للقدس.
هذا كله جرى توثيقه في رواية مكثفة لا يتجاوز عدد صفحاتها الـ 200 صفحة. والسؤال هو: كيف نجح الكاتب في المرور بكل هذا في رواية قصيرة كهذه؟ والإجابة واضحة، وهو أن الكاتب - في الرواية – لا يحتاج لذكر الحوادث بالتفصيل مثل المؤرخ، أو مثل مؤلف الرواية التاريخية التقليدية التي عرفناها في روايات جرجي زيدان، ونعرفها في روايات أمين معلوف، أو في البيت الأندلسي لواسيني الأعرج، وغيره. فهو هنا يكتفي - مثلما يقال – برأس الحدث تاركا للقارئ الذي لا بد أنه على دراية ومعرفة ببعض هذه الحوادث ومساقها التارخي أن يستدعي البقية.
يتوازى مع التوثيق التاريخي اتجاهٌ واضح لدى الكاتب للإفادة من تقنية السيناريو، فقد قسم الحكاية إلى مجموعة كبيرة من المشاهد التي يبدأ المشهد منها بعنوان يتضمن اسم المكان ثم تاريخ اليوم والشهر والسنــة، فعلى سبيل المثال يختص المشهــد السردي الموسوم بعنوان: القاهرة 23 شباط 1953 بنهايــة حياة المخــرج إبراهيــم لاما (ص179) ويتطلب المشهد، كمــا في الفيلم، صورا من الماضي، وأخرى مـن الحــاضر، وقــد يستدعي فــي صور الماضــي صورا أخرى جرى توثيقها بفيـلــم أو أكــثر، وهكــذا يجــد القارئ نفسه يغوص في عالم هذا المخرج وأفلامه المبكرة والمتأخرة، وآرائه في السينمــا.
وهو بطبيعة الحال لا يغيب عن فكره أنه الآن في منزله بشارع رمسيس يحتسي كأسه الرابع أو الخامس، وفي قفزة يتخللها فراغ نكتشف من قراءة الأهرام أن المخرج قتل زوجته الشابة ثم انتحر. وهذا المشهد السرديّ يلتصق بمشهد آخر سابق عن الكيالي بعنوان 1نيسان- إبريل 1947 ومن مجموع هذه المشاهد، اللاصق بعضها ببعض، يتكون الفحوى التسلسلي للرواية على نحو ما يتألف الفيلم من لقطات سينمائية متعددة يجري لصق بعضها ببعض فيما يعرف بالمونتاج أو التوليف.
وبما أن الموفيولا التي صنعها إبراهيم سرحان متوافرة، فإن القارئ يستطيع أن يلمح الخطوط التي تشد حلقات هذا السيناريو بعضها إلى بعض في وحدة نصية متماسكة.
وإمعانا في الاقتراب من السيناريو لجأ المؤلفُ لكتابةٍ يحاكي فيها الراوي المنظر الذي يُرى على الشاشة عند مشاهدة مسلسل أو فيلم. وهذا شيء يجده القارئ في بداية الرواية، ها هو يروي لنا وضع إبراهيم سرحان في مخيم شاتيلا وهو يتابع الأغنية: "يدخل المسلحان، يبحثان عن المذياع. كان عبد الوهاب قد وصل إلى المقطع الأخير من الأغنية: ما أقصر العمر حتى نضيعه في النضال. يركله مسلح. فيسقط أرضا لكنه لا يتوقف.
يصوب بندقيته للمذياع. يخرسه بطلقة من بندقية م16 "فكل عبارة من هذه الفقرة القصيرة تتضمن لقطة يحتاج تصويرها، والتدريب على تمثيلها ساعات. وها هو في موضع ثان يصف بلقطات قدوم الشابين بدر وإبراهيم لاما واتجاههما إلى فندق الجزيرة: "تمضي العربة بهما عبر شارع الخضر. تعبر التقاطع تجاه اليسار. مارة بشارع العجمي.. لتصل إلى ساحة السراي".
والصحيح أن للكاتب شغفًا بطريقة الكتابة التي تندغم فيها الكلمة بالصورة المتخيلة. وهذا شيء يقف عليه القارئ حيثما نظر في الرواية. فمثلما يشاهد القارئ في الفيلم صورة لشخص من الشخصيات في وضع معين، ثم على نحو فني يجرى التداخل بين تلك الصورة وصور أخرى تمثل حوادث أخرى يشير إليها الفيلم، على هذا النحو نجد في الرواية مشاهد عبر عنها الراوي بالكلمات، من ذلك- مثلا – صورة إبراهيم سرحان عائدا إلى ستوديو فلسطين بعد أن أدى مهمته الأولى بوصفه مصورا سينمائيا، في الأثناء يضيء السارد صورة أخرى تنبثق من تلك الصورة، وهي تمثل في الحقيقة مشهدا متحركا يروي ما يقوم به سرحان في العادة من تظهير للسالب ومن طباعة موجبة للصور التي جرى التقاطها ومن استعراض للشريط تحت ضوء المصباح. (ص26) ويلجأ الكاتب للربط بين حدثين وقعا في زمنين متباعدين عن طريق الحركة السريعة التي تشبه حركة الصُوَر على الشاشة للحظة ثم تستأنف حركتها الطبيعية عندما تصل إلى الحدث الثاني، وهذا كثيرٌ جدا في الرواية.
ومن ذلك ما يرويه السارد عن استقبال المفتي وفود المهنئين بعيد الأضحى في فيلا كولونا (1941) وكان من بين الوفود عدد من الطلبة الليبيين.
وهنا يتوقف الراوي ليمرر صورا بسرعة كبيرة قافزا مدة من الزمن تزيد على الثماني سنوات ليروي: "كان قد مضى على نكبة فلسطين عامان، وهو في مستشفى المواساة في الإسكندرية، تصله رسالة من وزير خارجية ليبيا الدكتور وهبي البوري، مهنئا بعيد الأضحى، مذكرا بذلك اللقاء في فيلا كولونا، وبالآية الداعية لعدم القنوط، واليأس، من روح الله التي وعظهم بها يوم كادوا ييأسونَ من الطليان".
مما يلاحظ على الكاتب في هذه الرواية شغفه اللافت في استخدام الزمن القادم وسيطا لرواية الخبر عن الماضي. وتلك لفتة ذكية منه إذ في هذه الحال يصبح التاريخ هو الراهن، والمستقبل، وكلاهما يجري تصويره وسرده على أساس أنه من الماضي.
وهذا شيء يتوافق مع طبيعة الرواية التي لا تميز في محكيها التخييلي بين الماضي والحاضر والمستقبل، فجلّ ما يصدر عن الشخوص من أفعال يجري سرده مجازًا لا حقيقة في الحدود التي يسمح بها التشكيل اللغوي، فالماضي لا شيء يمنع من أن يكون حاضرا باستخدام المضارع التخييلي، والحاضر لا شيء يمنع أن يكون في حكم ما هو ماضٍ في الحدود التي تسمح بها أداة التعبير. ففي المشهد السردي الآتي" ينظر إلى ساعته. يشرب ما تبقى من الشاي. مع هبوط الظلام سيغادر هذا المنزل.إلى دمشق، فبغداد وفق خطة رسمت بعناية، وأجّلت أكثر من مرة".
فالكاتب وفّق بين ينظر ويشرب وكلاهما من المضارع التخييلي وسيغادر وهذا فعل مقترن بالتسويف، ورسمت، وأجلت.
الفعلان الأخيران يدلان على أن ما جرى رسمه وتأجيله جرى في الزمن الماضي. وإذا عدنا لتأمل هذا المخطط السردي، وجدناه يتنقل بتؤدة بين الأزمنة المختلفة تنقلا لا ينم على اضطراب، فسواءٌ لجأ إلى المضارع - وهو كثير جدا - أو إلى التسويف، أو إلى الماضي، لا يخرج عن كونه سردا لأحداث بعد وقوعها لا في أثناء وقوعها، ولا قبله.
صفوة القول أنّ موفيولا رواية تاريخية لا يعيبها إلا الإفراط في التأريخ، والإفراط في التكثيف، والإفراط في الاقتراب من الفن السابع، والإفراط في اعتماد تقنيات سردية لغوية مناسبة لهذا النوع من الروايات، وهي بهذا تحظى بتقريظ لا يشوبه قدح، وبثناء فائق لا يُعْوزهُ مدح.
المصدر: ميدل ايست أونلاين