النخبة في عصر الصورة

النخبة في عصر الصورة

تواجه الثقافات البشرية اليوم الكثير من التحديات تغذيها الإيقاعات المتسارعة للتحولات الاجتماعية، ولم يعد هناك أي مكان لأي نشاط ثقافي لا يستطيع تقديم الجديد، فالابتكار شرط للبقاء، والإبداع منطق هذا العصر،

ولم تعد الأساليب والأدوات القديمة قادرة على الحفاظ على موقع متقدم في الحضارة الإنسانية، فتحولت «الصورة» من محاكاة فنية أو متعة بصرية إلى مظهر ثقافي يحمل قدراً لا يستهان به من القوة والتعبير والمصداقية ولغة عصرية تخط عناوين الإنتاج المعرفي.

مرت الثقافة عبر تطورها بمراحل أساسية، تمايزت عن بعضها بأسلوب صياغة المحتوى الثقافي والمظهر الفكري المتناقل للخلاصة الابداعية، لتتطور من مراحل شفهية صوتية إلى مراحل تدوينية كتابية وصولاً إلى المرحلة الصورية المعاصرة المرتكزة إلى منتجات التطور العلمي والتكنولوجي كالتلفاز والسينما والإنترنت، وهنا بدأ التغيير الجذري في ملامح الذهنية البشرية وأصبحت الصورة محور ذاك التغيير، فكُسرت الحواجز بين الطبقات الثقافية وتوسعت رقعة المشاركين في صياغة المظهر الفكري، لأن استقبال الصورة لا يحتاج إلى إجادة القراءة، بل لا يحتاج إلى الكلمات أصلا، فتدفقت فئات جديدة على الساحة الثقافية زعزعت أركان التشكيلة الثقافية التقليدية وفرضت على النخبة من المثقفين نظاماً فكرياً غير مألوف على الإطلاق، مما أدى إلى تراجع دورها بشكل كبير وفقدان رمزيتها القيادية التي حافظت عليها لوقت طويل.
تداخلت اليوم إمكانات التأويل الثقافي، وأصبح الجميع قادراً على تفسير كل ما يراه دون الحاجة لأي وسيط، ولم يعد هناك نخب ثقافية تحتكر أدوات الإبداع الفكري في الدوائر الثقافية، وبفضل النموذج الصوري للثقافة، تحرر القراء والمتابعون من تبعية النص المكتوب المتضمن تفاسير الكاتب وتلميحاته، وفقدت الدلالات اللفظية والسياقات اللغوية سلطتها على الجمهور، ودخلت العملية الفكرية إلى عاصفة غير محسوبة، دون أي رموز فكرية ترتكز عليها، وأصبحت تنساق دون وعي وراء نماذج محدودة، وصور نمطية تكتسح مختلف الوسائل الإعلامية، وانتشت بمفاهيم مزيفة عن «الحرية الفكرية»، دون أن تعيَ المفارقات المحدثة من طرف القوة المتسارعة لوسائل الإعلام المتدفقة بشعور الإنسان العربي بوهم الامتلاك والسلطة، والشعور بالتفرد والقوة، بينما هو في واقع الأمر غارق في عبودية الصورة، ضعيف أمامها تقوده، وتوجهه، وتصنع له الأحلام، وتخلق له بطلاً خارقا ونجماً بدلاً من رعاية الرموز الفكرية الحقيقية.
وفي خضم هذه التغييرات، تبقى نخبة المثقفين دون حراك، فهي ما زالت ترغب في التغيير من منطق الوصاية لا المحاورة، من خلال فرض الحقائق الثابتة في عالم لا ينفك تغيراً، فمازال المثقف يهدف إلى التأثير في العامة ويدعي انتماءه لها، لكن عينه تبقى على الخاصة، وفي ذاته الداخلية إحساس بالفوقية والتعالي على العموم، ويظهر انفصام واضح بين ما يصدره مثقفون من خطابات، وبين ما يطرأ من تحولات سريعة في واقعنا المجتمعي، ولتتحول الحقائق الفكرية التي ينادون بها إلى مجرد أحلام وأماني وأوهام .