اللغة «العالية» بوصفها اغتراباً!
ينشغل متتبعو الأدب عموماً والشعر خصوصاً ومحترفوه، منذ ما يزيد على العقدين في نقاش طويل حول جمهور الأدب من زاوية تعقيد لغة النّص، وتأخذ المسألة عادة الشكل التالي: إذا كان الأدب موجهاً إلى شريحة محددة نخبوية فإنه بالضرورة أدب بلغة «عالية»،
وفي حال وجّه لشرائح واسعة فهو أدب «شعبي» ولغته «عادية» أو «متدنية»..
وما ميّز هذا النقاش الطويل هو أن أصحاب الآراء المختلفة سواء أصحاب مقولة «الأدب للنخبة»، أو أصحاب مقولة «الأدب للجماهير»، انطلقوا من التسليم بأن ما يسمونه لغة عالية ليصفوا نصوصاً مثل نصوص سليم بركات أو أدونيس، هو «بالضرورة لغة جميلة وعالية الجودة.. ويبقى فقط أن نناقش وظيفية هذه اللغة، أي من تخاطب وكيف تؤثر؟؟»..
وهنا اقتراح آخر لنقاش المسألة برمتها.. هل «اللغة العالية» لغة جميلة فنياً؟ إذ تهاجم «النخبة» من يهاجمها بأنه ذو طرح شعبوي لا يرقى إلى مستوى الصنعة الأدبية..! ولكن من سلّم هذه النخبة مفاتيح الصنعة، ربما نسي إخبارها بأن نسخاً وتطويرات عديدة عن هذه المفاتيح تتواجد بكثرة في أيدي «السواد».. والأهم أن مفاتيح التذوق الجمالي هي الحكم النهائي لا مفاتيح الصنعة..
إن البحث في الأصول النقدية للتحزب النخبوي إلى «اللغة العالية» التي تعني أيضاً اللغة الصعبة المستغلقة المقعرة والجوفاء في أحيان كثيرة سيأخذنا مباشرة إلى البنيوية وتقديسها للنص وإلى تتماتها المنطقية في التفكيك والتأريخية الجديدة التي لا يخرج أكبر فطاحلنا النخبويين قيد أنملة عن التنظير المستورد المسروق منها، وأهم من ذلك هو البحث في أصول هذه الأفكار لا في ثقافة أوروبا ووضعها السياسي في النصف الثاني من القرن الماضي الذي حمل معه هذه المدارس النقدية، إن الأهم هو بحث أصل الأفكار النخبوية البائسة في مجتمعاتنا نفسها ولدى مثقفينا أنفسهم..
إن عجز بل وعقم هذه النخب تجاه الواقع الاجتماعي، وفقدانها لأي وظيفة حقيقية تؤديها، وابتعادها التدريجي عن الناس، وصولاً إلى تهويماتها الخاصة المنعزلة هو بالذات السبب وراء الشكل الفني والقالب الفني الذي تشتغل ضمنه هذه النخب، فالأسماء «الكبيرة» نفسها التي عاصرت قامات بارتفاع سعد الله ونوس وغسان كنفاني وناجي العلي وحيدر حيدر ورياض الصالح حسين، وحاولت في حينه أن تسجل لها ولو حضوراً ثانوياً ما إلى جانب العمالقة، تلوك اليوم قضية الثقافة من زاوية اغترابها هي، ومن زاوية عجزها هي بعد أن تركت ساح النضال الاجتماعي والفكري وانصرفت إلى «الجمال الصرف» والنتيجة أن هذا الجمال لم يكن جميلاً..!
إن الناس لا تزال تعيش جمالياتها البسيطة والعميقة، وتتنسم ريح الثقافة الجديدة في آلامها وأحلامها الواقعية.. تتلمس كعك غسان كنفاني الذي «على الرصيف»، وتتابع هاجس رياض الصالح حسين في بحثه عن حقائق بسيطة كالماء وواضحة كطلقة مسدس.. وإن الأدب والجمال الحقيقي هو تلك الأحلام التي تنمو في الأزقة المتعبة لا في الصالونات الثقافية.. فهل من أدباء لأزقتنا يريحون رأسنا من طنين الصالات وغربتها واغترابها؟؟