لا تخبّئوا رؤوسكم!
قبل اندلاع الأزمة السورية، كان عليك لكي تصبح صحفياً أو شاعراً أو مثقفاً، أن تبدأ أولاً ببناء شبكة علاقات عامة مع أوساط «النخب»، التي تدلّ عادةً العاملين في المؤسسات الثقافية الرسمية، أو مراسلي المؤسسات العربية والدولية.
وعليك أن تغذي هذه العلاقات بالتدريج، لكي يصبح بمقدورك أن تحجز مكاناً ضمن هذه الأوساط، مستخدماً شتى الوسائل، وعلى رأسها «تمسيح الجوخ»، الذي هو بحد ذاته فن يعتمد منهجية محددة، ولا يتم بشكل اعتباطي أو عشوائي. لأن تمسيح الجوخ لأحد «المثقفين» يثير سخط واستياء الباقين منهم، لذا عليك أن تعرف نوع الجوخ- الهدف، الذي لا يتعلق بنوعية الجوخ إطلاقاً، بل بموقعه داخل الوسط، وقدرته على إعطائك الموقع الذي تنشد..
والحقيقة أن هذا الواقع المأساوي غلب على المشهد الثقافي لسنوات طويلة، إن لم نقل لعقود. ذلك أن أزمة الثقافة هذه مشتقة من الأزمة السياسية والاجتماعية التي رزحت البلاد تحتها خلال الفترة ذاتها، والفساد الثقافي لم يكن إلا متمماً للفساد السياسي والاقتصادي الاجتماعي ونتيجة له.
ولا تعبر هذه الحال عن أزمة المؤسسة الثقافية الوطنية فحسب، بل تدلل أيضاً على مدى التشوه الذي لحق بأجيال من «المثقفين» الذين بلغوا المفاصل الأساسية في الحياة الثقافية، بما امتلكوه من عقلية وصولية وعدمية، وتفتقر إلى الموهبة في كثير من الأحيان.
إلا أن المشكلة الأكبر لدى مثقفينا تكمن في طابعهم المحافظ، فهم ومنذ بداية حياتهم العملية اعتادوا على كيل المديح للواقع القائم، ورفض نقده ثورياً، ولم يتعرضوا بالنقد إلا لتلك المسائل التي تلقى عادة إجماعاً، أو شبه إجماع، في أوساطهم وفي المجتمع، بما لا يهدد مواقعهم في المؤسسة الثقافية، أو يؤلب السلطة السياسية ضدهم، وبما لا «يسيء» إلى سمعتهم في المجتمع، أي بما لا يفقدهم شيئاً من نجوميتهم وجماهيرهم.
في حين أن التاريخ يقول غير ذلك، فمعظم المثقفين الحقيقيين، الذين تحفظهم ذاكرة الشعوب، كانوا في موقع النقد الثوري للواقع السائد السياسي والاجتماعي حتى النهاية.ولا يزال التاريخ يعيب على الكثير من مبدعي التاريخ تبريرهم للظلم السياسي والاجتماعي..
أما في واقعنا السوري، فترى بعض المثقفين أجمعوا حول بدعة، مفادها أن الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد هي من اختصاصات السياسيين وحدهم، أما نحن،أي المثقفين، فدعونا لاختصاصنا. وترى بعضاً آخر وجد في الالتحاق بأحد المعسكرين، النظام والمعارضة، طريقاً للتكسب والحفاظ على الامتيازات والنجومية. ولم يبق إلا قلة معدودة خرجت بموقف متوازن إزاء ما يمر على البلاد من أهوال. ما أدى إلى غياب المشروع الثقافي الوطني الحقيقي الذي يفترض أن يساند مشروعاً سياسياً جديداً جامعاً، ينقذ بدوره الوطن من محنته.
إن هروب مثقفينا هذا من المسؤولية في مثل هذه الظروف هو كإخفاء النعامة لرأسها في الرمل عندما تتعرض للخطر.فاعلموا أن الجسد الثقافي الذي شكلتموه طوال سنين بات مكشوفاً للخطر،أينما خبأتم رؤوسكم..