الأساطير في الوعي البشري (2-2)

الأساطير في الوعي البشري (2-2)

يرى كثير من العلماء الذين درسوا الأساطير دراسة منهجية، أن الانقسام الاجتماعي وما رافقه من انقسام العمل الذهني عن العمل العضلي أديا إلى انفصال الطبيعي عن الفوق طبيعي في وعي الناس، وإلى بروز الأساطير كعالم خاص يقف فوق العالم الطبيعي ويسيطر عليه

. وهذا ما أدى إليه تداخل الطبيعي والفوق الطبيعي في معتقدات المجتمع البدائي. وثمة كثير من العلماء لا تعتبر معتقدات البدائيين ديناً، بل تنسبها إلى الرؤى الأسطورية.

أما الدين كجزء لا يتجزأ من حياة الناس الروحية، وأحد أهم العناصر المكونة لنشاط البشر، فيشكل أحد أهم أشكال الوعي الاجتماعي الرئيسة. وبهذا المعنى، يمكن مقارنته بأشكال الوعي الاجتماعي الأخرى مثل: السياسة، التشريع، الأخلاق، الفن، العلم والفلسفة. لأن مهمة الوعي لا تنحصر في تصوير الواقع الاجتماعي وحسب، بل تمتد لتشمل عملية توجيه الناس لاتخاذ خطوات أو إجراءات محددة. ويوجه كل شكل من أشكال الوعي الاجتماعي المذكورة، سلوك الناس وفق معطياته ومعاييره. وهذا ينسحب على الدين أيضاً.
انبثق عن التصور الديني عن العالم، ومن الإيمان بأن رباً خلق هذا العالم ويتحكم في شؤونه، صغيرها وكبيرها، صلة عاطفية معينة تربط المؤمن بخالقه، وانبثقت معه أيضاً آمال بشرية، تطلعات، أوهام، أشواق، رغبات ومساع. وهذا الجمع من الأحاسيس والعواطف التي خلقها الدين في النفس البشرية، جعلت منه قوة حيوية مهيمنة.
وعندما  يتداخل الفكر الأسطوري في بنية المجتمع الديني يتجرد من طبيعته البشرية ليصبح في النهاية مقدساً. والمقدس نمط من أنماط علاقة البشر بأصل الأشياء يغيب فيها البشر ويظهر مكانهم أقران لهم، أي كائنات خيالية خارقة. إذ لا يمكن للمقدس أن يظهر إلا إذا غاب شيء ما من الإنسان. والإنسان الذي يغيب هو الإنسان شريك الطبيعة في تكوين نفسه، الإنسان الذي شكل أسلوب وجوده الاجتماعي وكيانه الاجتماعي. فطبيعة البشر لا تجعلهم يعيشون في مجتمع وحسب – كبقية الحيوانات الاجتماعية – بل تجعلهم ينتجون مجتمعاً ليتمكنوا من العيش. وبازدواجية البشر وابتداعهم لأقران خياليين غير موجودين وأقوى من البشر الحقيقيين يجعلهم يبدون لا كفاعلين وخالقين جزئياً لأنفسهم وإنما كمنفعلين. فازدواجية البشر تترافق مع تشويه وحجب للواقع وقلب للعلاقات السببية. لكن حين يغيب الإنسان الحقيقي عن الأصول، حين يزدوج بالفكر مبتدعاً كائنات خارقة أقوى من الإنسان، ينشطر الواقع الإنساني ويصبح البشر الحقيقيون غرباء جزئياً عن أنفسهم، يكون ذلك بفعل آلية لا تتعلق بالفكر وحده.   
فابتداع هذه الكائنات وإنتاج حكايات تروي مغامراتهم وإعداد طقوس تحتفي بهم وتعيد إحياءهم بين البشر، كل ذلك يقتضي عملاً للفكر،عملاً واعياً يحرك في الوقت ذاته بنى لا واعية في الذهن. ويكمن الأمر الجوهري في أن الأساطير هي تفسير لأصل الأشياء يعطي شرعية لنظام الكون والمجتمع بإحلال بشر خياليين لم يدجنوا النبات والحيوان ولم يبتكروا الأدوات والأسلحة ولم يخترعوا اللغة، بل تلقوا هذه المنافع من أيدي الآلهة أو الأبطال المؤسسيين، محل بشر حقيقيين قاموا بكل ذلك. وقد شرح هذه الفكرة الجوهرية بوضوح العالم  الفرنسي موريس غودولييه في كتابه لغز الهبة.
الفكر الأسطوري تطوير وحيد الطرف، مبالغ فيه، تكبير، تضخيم لأحدى الميزات الصغيرة في المعرفة، لأحد جوانبها، لأحد وجوهها، إلى مطلق منفصل عن المادة، عن الطبيعة، مؤلّه. ومن المؤكد أن للفكر الأسطوري جذوراً معرفية؛ ولها تربة، إنها زهرة لا تطرح ثمرة، ذلك لا جدل فيه، ولكنها تنبت على شجرة حية هي شجرة المعرفة الإنسانية الحقيقية،الشديدة الحيوية، المثمرة،القوية، الكلية الجبروت.