الكتابة
النصّ المكتوب هو وسيلة تحوي على رموز متفق عليها من أجل تسهيل التواصل بين البشر. بدأت الكتابة في سومر قبل أكثر من أربعة آلاف عام مضت، والملحمة السومريّة جلجامش هي مثال مذهل على ما يمكن للرموز المدونة أن تصنع. اعتبر السومريون الكتابة هبة من الإله إنليل، كما سيدّعي البابليون لاحقاً بأنّها هبة من إلههم نابو. يبدو بأنّ النصوص قد نشأت كوسيلة لحمل اللغة المنطوقة عبر المسافات الطويلة، من أجل مقتضيات التجارة. فمع نموّ المدن في بلاد الرافدين وتحقيقها للفوائض، وازدياد عدد السكان وتطورهم، باتت هناك حاجة للمزيد من البضائع التي لم يعد من يمكن الحصول عليها محليّاً. وعليه فقد أصبحت التجارة طويلة المدى وسيلة للحصول على الضروريات أو الكماليات (مثل الأحجار النفيسة الملونة التي كانت تستخدم للزينة)، واشتغل على ذلك بها سكانٌ من جميع مدن بلاد الرافدين المزدهرة. ومع الوقت، تطوّر الشيء الذي كان في بادئ الأمر مجرّد لوائح بالبضائع، ليصبح وسيلة أكثر تعقيداً لنقل الأفكار والمشاعر. شكّل هذا مع الوقت النصّ الذي حمل الثقافة والأدب. يقول المؤرّخ ول ديورانت:
«الأدب هو الكلمات التي قيلت وليس التي طبعت، وذلك رغم ما يدلّ عليه اسمه. لقد نشأ على شكل أناشيد دينيّة أو تعويذات سحريّة، وتلاه الكهنة، وانتقل من ذاكرة إلى أخرى بشكل شفهي. تعني (كارمينا)، وهكذا سمّى الرومان الشعر، كلا الشعر المنظوم والكلمات السحريّة. وقد عنت القصيدة لدى الإغريق تعويذات الشعوذة. وكذلك الأمر لدى الإنكليز والألمان. لقد تطوّر الإيقاع والقوافي الوزنيّة، وهي التي ألهمتها الإيقاعات في الطبيعة والحياة غالباً، على يد السحرة والشامان من أجل نقل وتعزيز تعويذاتهم السحريّة. من هذا الأصل الكهنوتي خرج الشاعر والخطيب والمؤرّخ وباتوا متمايزين وغير دينيين».
يمكن رؤية ذات النموذج لاستخدام النص في حضارات قديمة أخرى. فلدى الفراعنة خلق الإله تحوت، وهو إله الكتبة والنسّاخين، النصوص المكتوبة. يظهر الإله تحوت في أسطورة حورس، وهو يصوّر في العصور المتتالية بأنّه: «الإله الذي يحبّ الحقيقة ويكره الزور». وقد ارتبطت صورة النسخ بالحقيقة في عدّة حضارات قديمة أخرى.
بدأت الكتابة في الصين في عهد سلالة شانغ حوالي 1200 قبل الميلاد، باستخدام الوسطاء الروحيين للعظام أثناء ممارستهم للعرافة. كان يتمّ حفر السؤال على صدفة سلحفاة أو على عظمة حيوان، ثمّ يتمّ تعريضها إلى حرارة عالية، ليحصل السائل على إجابته من خلال الكسر الحاصل على الصدفة أو العظمة. وهذه الإجابة هي حقيقة آتية من العالم الإلهي لا يمكن دحضها. وبقيت تحمل طابع الحقيقة هذا عندما تطورت وأصبحت تستخدم لتسجيل الأحكام وتحويلات التجّار.
وبدأت الكتابة لدى الإغريق في الحضارة الميسينيّة. إنّ الكتابة التي بدأت في بلاد الرافدين، انتقلت في بادئ الأمر إلى مصر. ثمّ انتشرت إلى بقيّة المناطق، بما في ذلك كريت وفينيقيا. لقد بدأت أبجديّة معظم اللغات المعاصرة في فينيقيا وانتقلت بعدها إلى اليونان قرابة القرن الثامن قبل الميلاد. إنّ إلياذة وأوديسّة هوميروس هما دليلان مبكران على استخدام الإغريق للأبجديّة الفينيقيّة قرابة القرن الثامن قبل الميلاد. يقول ديورانت:
«تبعاً لأنّ التجارة قد حتمت على قبائل مختلفة اللغة أن تتواصل، فقد بات نوع من السجلات والاتصال المتبادل أمراً مرغوباً. ويمكن الافتراض بأنّ الأرقام كانت من بين أقدم الرموز التي كتبت، وهي عادة ما أخذت شكل يشبه أصابع اليد. يمكننا مثلاً تتبّع رموز الأرقام في اللغات المعاصرة إلى جذورها، مثل خمسة في الألمانية واليونانيّة، لنعلم بأنّها كانت تحمل معنى «يد أو كف». أو الرقم الروماني (V) الذي يعني اثنان، و (X) الذي يعني ببساطة اثنان من (V)، أي أربعة».
لقد كان اختراع الكتابة فنّاً بحدّ ذاته، وبفضل هذا الفن استطاعت البشريّة أن تحفظ وتنقل لنا أعظم نتاجاتها، بدءاً من جلجامش ومروراً بأنشودة إنخدوانا وكتاب الموتى الفرعوني والإلياذة وليس نهاية بالمهابهارتا الهندية. ربّما الكتابة هي أعظم ما يميّز الإنسان في نهاية المطاف.